العولمة وأثرها على العمل المصرفي الإسلامي أ.د كمال حطاب
العولمة وأثرها على العمل المصرفي الإسلامي
أ.د كمال حطاب
بدأ مصطلح العولمة في الظهور والانتشار عالميا في التسعينات من القرن الماضي، وقد استمر في تصدر الأدبيات الاقتصادية إلى أن ظهرت الأزمة المالية العالمية عام 2008 ، حيث احتلت الأزمة المالية العالمية المكانة الأولى في الأخبار الاقتصادية على مستوى العالم ، وليس معنى ذلك أن مصطلح العولمة قد اختفى أو أنه آخذ بالانحسار ، ولكن ذلك يعني أن قوى العولمة قد أصابها ما أصاب العالم من تراجع وتباطؤ وركود وبالتالي خسائر وانهيارات وإفلاسات لحقت بكافة مرافق وقطاعات الاقتصادات المتقدمة والمتخلفة .
إن قوى العولمة المتمثلة في الشركات المتعددة الجنسية والمنظمات الاقتصادية والمالية الدولية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير ومنظمة التجارة العالمية ، قد اصيبت بالشلل بفعل الأزمة المالية العالمية ، ولا تزال تتخبط كالذي يتخبطه الشيطان من المس ، ولا يستطيع أحد أن يجزم حول النهايات الأكيدة لهذه الأزمة .. غير أن ما يمكن الجزم به هو أن العالم بكافة قطاعاته الاقتصادية والمالية بحاجة إلى سنوات طويلة لكي يتعافى من هذه الأزمة ، وهو لا شك بحاجة إلى فترة نقاهة طويلة يتخلص خلالها من إدمانه الربوي وأنشطته المالية العبثية العقيمة . كما أنه بحاجة ماسة إلى أن يتعاطى شيئا من القيم والمثل والفضيلة إضافة إلى أنشطة مالية أكثر عدالة وإنتاجية .
فمع ظهور الأزمة المالية العالمية والتي كانت نتيجة حتمية لتغول قوى العولمة وطغيانها .. أخذ العالم يعترف شيئا فشيئا بصوابية العمل المصرفي الإسلامي وبطلان العمل المصرفي الربوي الذي أوصل العالم إلى هذه النهاية المأساوية .
ويمكن القول بأن بعض الفضل في الانتشار السريع للعمل المصرفي الإسلامي يرجع إلى العولمة وسعيها الدؤوب لتحقيق الأرباح ، حيث تقاطع هذا السعي مع توافر رأس المال الإسلامي الذي يخوض العالم بحثا عن فرص الاستثمار الأكثر أمانا والأقل خطرا .
وقد احتضنت البنوك والمؤسسات المالية الدولية التقليدية رؤوس الأموال الإسلامية ووفرت لها نوافذ إسلامية وصناديق استثمار إسلامية وصناديق تحوط إسلامية ومؤشرات داو جونز إسلامية .. الخ ، بل تطور الأمر إلى أن طورت كثير من الدول الغربية من تشريعاتها لكي تشمل العمل المصرفي الإسلامي ، ولعل من أبرز هذه الدول بريطانيا والتي تعتبر أول بلد أوروبي يسن تشريعات قانونية للإشراف والمراقبة على المؤسسات المالية الإسلامية من قبل الجهات المعنية ، وقد منحت ترخيصا في عام 2004 ، للمصرف الإسلامي البريطاني لمزاولة نشاطه فيها .
كما وجدت في بريطانيا برامج دراسية متخصصة على مستوى البكالوريوس والدراسات العليا في التمويل والمصارف الإسلامية من قبل بعض الأقسام أو المراكز العلمية التابعة لجامعات إما بمفردها أو بالتعاون مع مؤسسات إسلامية لاعتماد برامجها التعليمية ، ومنها :جامعة هريوت وات بأدنبرة في اسكتلندا ، وجامعة درم ، وجامعة لفبرة ، وجامعة بورتسثموث وجلوستر ، وليستر ن وداربي ، وبرادفورد … وكذلك مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية … الخ
وتسير كثير من الدول الأوروبية كفرنسا على نفس النمط البريطاني في التعامل مع التمويل الإسلامي ومؤسساته ، وهذا يؤكد حقيقة أن العولمة قد مهدت الطريق للتمويل الإسلامي ومؤسساته للانتشار في الغرب وفي سائر دول العالم .
لقد ساهمت العولمة ودون قصد منها بالارتقاء بالعمل المصرفي الإسلامي فنيا ومهنيا وذلك عن طريق العمل بمقررات بازل 1 وبازل2 ووكالات التصنيف الائتمانية العالمية ، وتطوير الصكوك الإسلامية عالميا ، وظهور ابتكارات ومنتجات مالية إسلامية عالمية من خلال الهندسة المالية الإسلامية .
إن الاتجاه نحو الصيرفة الإسلامية والتمويل الإسلامي أصبح حقيقة واضحة لا يستطيع أحد أنكارها ، وقد ساهمت العولمة دون قصد منها أو إعجاب بالنظام المصرفي الإسلامي ، ساهمت في تعزيز الاتجاه نحو الصيرفة الإسلامية سعيا وراء الأرباح والسيطرة على الأسواق وجذب أكبر كمية من المدخرات العالمية .
وسواء كان هذا الاتجاه بقصد التطهر والتسامي والاستفادة من بركات الصيرفة والتمويل الحلال وهو أمر مشكوك فيه . أم كان بقصد اغتنام الفرص وجذب أكبر عدد من العملاء الذين يحرصون على تطهير أنفسهم وأموالهم من مستنقع الربا والفوائد الربوية ، فإن الصيرفة الإسلامية والتمويل الإسلامي قد غدا حقيقة لا تقبل الشك ، يتطلع إليه المسلمون في العالم ، كما يتطلع إليه المنصفون والمؤيدون للأنشطة الطيبة النافعة والمقاطعون للأنشطة الخبيثة والضارة على مستوى كافة دول العالم .
إن هذه المكانة العالمية للعمل المصرفي الإسلامي تزيد في المسئولية الملقاة على كاهل الخبراء والباحثين والمتخصصين في هذا المجال من أجل استمراية المحافظة على سلامته الشرعية وكفاءته المالية والاقتصادية .