بريتون وودز ومستقبل التمويل الإسلامي أ.د كمال توفيق حطاب
بريتون وودز ومستقبل التمويل الإسلامي
أ.د كمال توفيق حطاب
حضرت في صيف العام الماضي مؤتمرا في قرية بريتون وودز بولاية نيوهامباشاير الأمريكية ، بمناسبة مرور ثمانين عاما على الاتفاقية الشهيرة التي وقعت في مؤتمر بريتون وودز عام 1944 ، وقد كان اسم هذه القرية والمؤتمر الذي عقد فيها محفورا في رأسي منذ أكثر من ثلاثين عاما حين كنا على مقاعد الدراسة ، وكان اسم هذا المؤتمر وما نجم عنه يتكرر في معظم المواد التي كنا ندرسها في الاقتصاد .. وبالتحديد في مادة العلاقات الاقتصادية الدولية .. فتتويج الدولار على عرش العملات العالمية تم في هذاالمؤتمر .. وتنحية الذهب عن أداء دوره النقدي الحقيقي تم كذلك في هذا المؤتمر .. ووضع المخططات الأولى لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير ، ورسم الخطوط والأطر المنظمة للعلاقات الاقتصادية والنقدية الدولية لعالم ما بعد الحرب .. كل ذلك وغيره تم في مؤتمر بريتون وودز عام 1944 .
حرص منظمو المؤتمر على استحضار روح بريتون وودز .. من حيث المكان وبعض الشخصيات التي حضرت ذلك المؤتمر الشهير .. فهذه الغرفة التي كتبت فيها الحروف الأولى للاتفاقية .. وهذا جون ماينارد كينز (شبيهه) يتنقل بين الحضور معرفا بنفسه ، ومبديا استغرابه من الكاميرات والأدوات العصرية التي لم تكن في عهده .
حرص المنظمون على طرح موضوعات في الاقتصاد والمالية والإدارة والسياسة الاقتصادية لا تبتعد كثيرا عن روح بريتون وودز ، وقد عرضت موضوعا عن التمويل الإسلامي شكل صدمة لكثير من الحاضرين الذين لم يسمعوا أو يعرفوا عن التمويل الإسلامي .. اعترض البعض على مسألة أن سعر الفائدة مخصص سيء للموارد كما أنه عديم الأثر على الاستثمار وفقا لإنزلر وميد وغيرهم من الاقتصاديين الأمريكيين الذين أوردت أسماءهم ..
كما أصر أحد الحاضرين على أن البنوك المركزية منذ بريتون وودز لا تستطيع الخروج عن اتفاقية بريتون وودز .. كما أن معايير بازل وغيرها من المعايير المهنية والفنية المطبقة حاليا لا يمكن أن تخرج عن ما تم الاتفاق عليه في بريتون وودز .. بل إن الأمر تعدى ذلك إلى القول بأن البنوك الإسلامية والتمويل الإسلامي لا يمكن أن يخرج عن هذه الروح وإن اختلفت المسميات والأشكال ..
وفي رأيي أن صاحبنا كان محقا .. ويبدو أن العالم منذ بريتون وودز حتى وقتنا الحاضر لم يتغير كثيرا .. فالذين خرجوا منتصرين في الحرب العالمية الثانية هم الذين فرضوا قواعد السلوك الاقتصادي والنقدي الدولي .. وهم الذين أوجدوا صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير واتفاقية الجات الممهدة لوجود منظمة التجارة العالمية .. ولا يزال الدولار متوجا على عرش العملات العالمية ولا يزال الذهب فاقدا دوره في تحقيق الاستقرار النقدي العالمي .
غير أن صاحبنا لم يكن محقا في قناعته حول عدم إمكانية الخروج من نفق بريتون وودز ، فالتمويل الإسلامي في الوقت الحاضر أصبحت له أدبياته ومؤسساته ومراكزه على مستوى العالم ، كما أن الكثير من المراكز والمؤسسات المرموقة تشير إليه بإشارات الإعجاب والانبهار ..
صحيح أن البنوك الإسلامية لا تزال تراوح حول المسميات .. ولا تزال تأتمر بأمر البنوك المركزية حول العوائد والأرباح ومعدلات الليبور … وغيرها .. غير ان محافظي البنوك المركزية في معظم الدول الإسلامية أصبحوا أعضاء في مجلس الخدمات المالية الإسلامية وغيره من المؤسسات الداعمة والمساندة لمسيرة البنوك الإسلامية وبالتالي فقد عرفوا خصوصية البنوك الإسلامية .. واعترفوا بضرورة وجود معايير خاصة لها ، شرعية وأخلاقية وإنسانية .. تراعي الأبعاد الاجتماعية والإنسانية كما تراعي الأبعاد الفنية والمهنية .. وهذا يعني أن التمويل الإسلامي يمكن أن تكون له خصوصية عالمية ، كما يمكن أن يسهم في تحقيق الاستقرار المالي العالمي ، وهذا ما أدركه كثير من المفكرين والباحثين في الشرق والغرب في أعقاب الأزمة المالية العالمية .