عام الرمادة في غزة .. أ.د كمال حطاب
عام الرمادة في غزة
أ.د كمال حطاب
في عام 18هــ ، ضربت المجاعة المدينة المنورة وامتدت إلى سائر جزيرة العرب ، وأطلق على ذلك العام عام الرمادة ، حيث تحول التراب إلى رماد لشدة الجفاف وانقطاع المطر وتحرك الطبقات البركانية في الأرض .. وبدأ الناس يتساقطون من شدة الجوع .. وكان خليفة المسلمين في ذلك الوقت هو عمر رضي الله عنه .. الذي كان يحاسب نفسه على بغلة عثرت بأرض العراق .. فكيف سيكون حسابه لنفسه على موت الناس وعدم قدرته على إنقاذهم بسبب الجوع ..
وفي عام 1447هــ ضربت المجاعة أرض غزة ، ولم تكن مجاعة طبيعية بسبب المطر أو الطبيعة ، ولكنها مجاعة مفتعلة أو هي حرب تجويع يُمنع فيها مليونان من شعب غزة من الوصول إلى الطعام والماء وكافة أسباب الحياة .. بل إنهم يُجوّعون ويقتلون ويتساقط المئات منهم يوميا بسبب الجوع والمرض والقتل المستهدف ..
وما يهمنا هنا ، هو هل يمكن الاستفادة من الاجراءات التي قام بها عمر رضي الله عنه ، رغم أنها كانت إجراءات اجتهادية غالبا ، وفي ظروف تختلف كثيرا عن الظروف المعاصرة ؟
مما لا شك فيه ، أنه يمكن الاستفادة مما قام به عمر رضي عنه .. وعلى مدى تسعة شهور .. حيث استغاث عمر رضي الله عنه بعمرو بن العاص واليه على مصر ، وكذاك معاوية واليه على الشام ، وسعد واليه على العراق ، فأرسلوا إليه القوافل المتتالية محملة بالغذاء والمؤن .. وبعث إليه عمرو بن العاص بأنه سيبعث إليه بقوافل يكون أولها في المدينة وآخرها في مصر .. وبالفعل تم ذلك وبدأ الناس يتعافون وأعداد الموتى تنخفض يوما بعد يوم وشهرا بعد شهر ..
أما في غزة فقد أطلقت نداءات الاستغاثة ودُقت نواقيس الخطر .. ولم يستطع أحد من الشرفاء في العالم تقديم أي شيء حتى الآن .. ووقفت الحكومات الصديقة والشقيقة تراقب بصمت دون أن يتحرك لها ساكن أو يستيقظ لها ضمير ..
استقبل عمر رضي الله عنه أهل البادية من حول المدينة وبنى لهم المخيمات وكلف من يشرف على إطعامهم ، وأحصى الناس، وراقب أوضاعهم الصحية ، وعدد الذين يدفنون يوميا وكانوا بالمئات ، وعمل على تقليل هذا العدد ، بكافة الوسائل .. وفي غزة اليوم حاصر الأشقاء والأصدقاء من الدول المحيطة بغزة .. حاصروا غزة حصارا مطبقا .. وتركوهم يتعرضون وحدهم للموت بعد أن منعوا دخول الماء والدواء والطعام .
صنع عمر رضي الله عنه من نفسه قدوة عليا ونموذجا يصعب الوصول إليه ، فحرم نفسه وأهل بيته من كثير من المباحات ، وحرم على نفسه السمن واللحم واللبن إلى أن تنقضي المجاعة .. وقد رأينا قادة فصائل المقاومة يتقدمون الناس في الاستشهاد والمجاعة .. غير أنه لا يزال عدد من المشاهير والمؤثرين والتجار يعيشون حياة مرفهة وكأنهم ليسوا في غزة ..وهذا يتطلب أن يتخلى هؤلاء عن كثير مما لديهم طواعية .. ويقوموا بتوزيعه على الجائعين والمحرومين الذين لا يجدون كسرة خبز .. قبل أن يُجبروا على ذلك ..
كان منهج عمر رضي الله عنه أن يأكل الناس نصف شبعة ، وكان يقول : لو لم أجد للناس ما يسعهم إلا أن أدخل على أهل كل بيت عددهم ، فيقاسموهم أنصاف بطونهم لفعلت ، فإنهم لن يهلكوا على أنصاف بطونهم .. وهذا يعنى أن يكفل الناس بعضهم البعض ، فإن لم يفعلوا يرغموا على ذلك ، بأن يتكفل من يجد طعاما بمن لا يجد ، فيتقاسم الناس طعامهم ، مهما قل ، فإنهم لن يموتوا على أنصاف بطونهم .. ولا على أرباع بطونهم ..ولا على أقل من ذلك شريطة أن يصل هذا القليل إلى الجميع .
وهذا يتطلب أن تقوم الحكومة في غزة أو من يمثلون الجهاز القضائي ، بحصر المحتكرين أو المخزنين للطعام والذين يرفعون أسعاره عشرات أو مئات الأضعاف ، ومصادرة ما بأيديهم مما يزيد عن حاجاتهم وتوزيعه على الجوعى والمرضى ومن لا يجد لقمة الخبز ..
لم يطبق عمر رضي الله عنه حد السرقة في عام الرمادة نظرا لحاجة الناس ، وقال : ” والله لولا خشية أن ينتشر في الناس البغي والتعدي لأعلنت فيهم أن ليس على السارق هذا العام حرج فيما سرق “.. وهذا يتطلب من الجهاز القضائي في غزة تأجيل تنفيذ الكثير من العقوبات التي كان من الممكن تنفيذها في غير هذه الظروف .. ومراعاة حالات الضرورة والمجاعة .. والتركيز على إغاثة الناس ومحاولة إنقاذهم .
لا بد من استمرار إطلاق نداءات الإغاثة .. الغوث الغوث ثم الغوث .. ومخاطبة جميع شرفاء العالم .. القريب والبعيد .. ولتؤجل الخلافات والنزاعات .. وليتم تجاوز الانقسامات .. ويتم التركيز على المجاعة فقط ..
يمكن للجهات الاقتصادية أن تصدر كوبونات مضمونة من المنظمات الدولية كالأنروا أو أية جهات موثوقة.. يتم توزيعها على الناس بحيث يمكن استخدامها في الحصول على الطعام ..وعلى أن يتم استبدالها والحصول على قيمتها بعد انتهاء المجاعة وتوقف العدوان الوحشي الصهيوني .