عودة إلى الصفحة الرئيسية

نحو بنوك إسلامية خضراء أ.د كمال توفيق حطاب

20 March 2015

نحو بنوك إسلامية خضراء
أ.د كمال توفيق حطاب
في شهر يناير 2015 شاركت في المؤتمر العالمي للعلوم الإنسانية والتربوية والذي انعقد في جامعة كورنيل فرع مانهاتن ، كانت نيويورك وكافة مدن الساحل الشرقي لأمريكا تكسوها الثلوج ، مما أضفى على النفس المزيد من الصفاء والنقاء .. ضم المؤتمر عشرات الباحثين من تخصصات مختلفة ، ولكنها بدت تخصصا واحدا عندما تناولت الجوانب الإنسانية لهذه التخصصات .. فاللغات والآداب والموسيقى والتربية والاقتصاد والاجتماع والصناعة والتكنولوجيا .. كلها لها جوانب إنسانية يتفق الجميع على أهميتها وضرورة مراعاتها ..
فالموسيقى وآثارها المهدئة للنفس الإنسانية ، كانت الباحثة تعرض لآثار غناء الأمهات لأطفالهن الرضع بلغات مختلفة من أجل يناموا ، وبالفعل كانت النتيجة فعالة ، عرض الباحثون بحوثا عن اللغات وأصولها الإنسانية المرتبطة بالبيئة وكذلك لآثار التكنولوجيا على البيئة .. وكان الباحث الذي قبلي يركز على ضرورة أن تكون صناعة السيارات في البرازيل صناعة خضراء ..
كان بحثي عن “الدور الإنساني للبنوك الإسلامية” ، ووجدتني أبدأ بالحديث عن البنوك الإسلامية الخضراء ، التي تحرص على الجوانب الإنسانية والبيئية والأخلاقية أكثر من حرصها على الربح .
بدأت حديثي باعتبار أن البنوك الإسلامية هي مؤسسات بشرية ليست كاملة وأنها معرضة للنقد والمراجعة والتطوير ولذلك جاء هذا البحث من أجل تفعيل الجوانب الإنسانية لهذه البنوك التي ترفع شعار الإسلام في أهدافها ومعاملاتها .. وبالتالي لا بد أن تكون على قدر هذا الشعار قولا وفعلا وتطبيقا ..
ويتفق الجميع على أن البنوك الإسلامية تلتزم في تمويل المشروعات الحلال .. الطيبة .. التي لا تلحق الضرر بالإنسان أو البيئة كما تلتزم باختيار المشروعات الأكثر أولوية ونفعا للمجتمع .. ولكن من جهة أخرى .. هل هي بعيدة عن الاستغلال والإذعان في عقودها ؟ هل تراعي حاجة المحتاجين أو العاجزين ؟ هل تلتزم بإنظار المعسرين أو معونة الغارمين ؟ هل تلتزم بإنشاء صناديق للقرض الحسن ؟ هل لديها صناديق وقفية مثلما لديها صناديق ادخار واستثمار ؟
هذه أسئلة كثيرة طرحت بعضها في المؤتمر .. ووجدت تفاعلا من الحضور الذين لا يجدون فرقا بين بنوك إسلامية أو غير إسلامية .. فجميعها في الوقت الحاضر تلتزم بمعايير المسؤولية الاجتماعية ، وربما تلتزم البنوك التقليدية بخدمة المجتمع والحرص على العاملين فيها ومراعاة البيئة وقضايا التلوث .. إلخ أكثر من البنوك الإسلامية ..
ومن هنا فإن الدور الإنساني المطلوب من البنوك الإسلامية المعاصرة هو أكبر بكثير مما تتطلبه معايير المسؤولية الاجتماعية .. فبالإضافة إلى ما سبق لا بد أن تلتزم البنوك الإسلامية بمراعاة العاجزين وغير القادرين على العمل ، ومراعاة الجوانب الصحية والتعليمية ، وقضايا المرأة وحرية التعبير وتكافؤ الفرص والرضا الوظيفي والشفافية والحوكمة والإدارة البيئية .. ومن أجل تكون بنوكا إسلامية خضراء .. لا بد أن تلتزم بمعايير التنمية المستدامة وحقوق الإنسان وتقليل استخدام الأوراق والقرطاسية التي تزيد في تدمير الغابات ..
في عام 2010 أطلق معيار الآيزو 26000 الخاص بالمسؤولية الاجتماعية ، وبعد هذا التاريخ وجدنا معظم البنوك والشركات والمؤسسات تسارع إلى ذكر دورها في الالتزام بالمسؤولية الاجتماعية على مواقعها الإلكترونية .. ولا شك أن البنوك الإسلامية منذ انطلاقتها قبل أربعة عقود كانت تحرص على التنمية الاجتماعية .. ولكن المطلوب في الوقت الحاضر هو أكبر من الدور الاجتماعي أو المسؤولية الاجتماعية .. المطلوب أن تكون بنوكا إنسانية خضراء

بريتون وودز ومستقبل التمويل الإسلامي أ.د كمال توفيق حطاب

20 March 2015

بريتون وودز ومستقبل التمويل الإسلامي
أ.د كمال توفيق حطاب
حضرت في صيف العام الماضي مؤتمرا في قرية بريتون وودز بولاية نيوهامباشاير الأمريكية ، بمناسبة مرور ثمانين عاما على الاتفاقية الشهيرة التي وقعت في مؤتمر بريتون وودز عام 1944 ، وقد كان اسم هذه القرية والمؤتمر الذي عقد فيها محفورا في رأسي منذ أكثر من ثلاثين عاما حين كنا على مقاعد الدراسة ، وكان اسم هذا المؤتمر وما نجم عنه يتكرر في معظم المواد التي كنا ندرسها في الاقتصاد .. وبالتحديد في مادة العلاقات الاقتصادية الدولية .. فتتويج الدولار على عرش العملات العالمية تم في هذاالمؤتمر .. وتنحية الذهب عن أداء دوره النقدي الحقيقي تم كذلك في هذا المؤتمر .. ووضع المخططات الأولى لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير ، ورسم الخطوط والأطر المنظمة للعلاقات الاقتصادية والنقدية الدولية لعالم ما بعد الحرب .. كل ذلك وغيره تم في مؤتمر بريتون وودز عام 1944 .
حرص منظمو المؤتمر على استحضار روح بريتون وودز .. من حيث المكان وبعض الشخصيات التي حضرت ذلك المؤتمر الشهير .. فهذه الغرفة التي كتبت فيها الحروف الأولى للاتفاقية .. وهذا جون ماينارد كينز (شبيهه) يتنقل بين الحضور معرفا بنفسه ، ومبديا استغرابه من الكاميرات والأدوات العصرية التي لم تكن في عهده .
حرص المنظمون على طرح موضوعات في الاقتصاد والمالية والإدارة والسياسة الاقتصادية لا تبتعد كثيرا عن روح بريتون وودز ، وقد عرضت موضوعا عن التمويل الإسلامي شكل صدمة لكثير من الحاضرين الذين لم يسمعوا أو يعرفوا عن التمويل الإسلامي .. اعترض البعض على مسألة أن سعر الفائدة مخصص سيء للموارد كما أنه عديم الأثر على الاستثمار وفقا لإنزلر وميد وغيرهم من الاقتصاديين الأمريكيين الذين أوردت أسماءهم ..
كما أصر أحد الحاضرين على أن البنوك المركزية منذ بريتون وودز لا تستطيع الخروج عن اتفاقية بريتون وودز .. كما أن معايير بازل وغيرها من المعايير المهنية والفنية المطبقة حاليا لا يمكن أن تخرج عن ما تم الاتفاق عليه في بريتون وودز .. بل إن الأمر تعدى ذلك إلى القول بأن البنوك الإسلامية والتمويل الإسلامي لا يمكن أن يخرج عن هذه الروح وإن اختلفت المسميات والأشكال ..
وفي رأيي أن صاحبنا كان محقا .. ويبدو أن العالم منذ بريتون وودز حتى وقتنا الحاضر لم يتغير كثيرا .. فالذين خرجوا منتصرين في الحرب العالمية الثانية هم الذين فرضوا قواعد السلوك الاقتصادي والنقدي الدولي .. وهم الذين أوجدوا صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير واتفاقية الجات الممهدة لوجود منظمة التجارة العالمية .. ولا يزال الدولار متوجا على عرش العملات العالمية ولا يزال الذهب فاقدا دوره في تحقيق الاستقرار النقدي العالمي .
غير أن صاحبنا لم يكن محقا في قناعته حول عدم إمكانية الخروج من نفق بريتون وودز ، فالتمويل الإسلامي في الوقت الحاضر أصبحت له أدبياته ومؤسساته ومراكزه على مستوى العالم ، كما أن الكثير من المراكز والمؤسسات المرموقة تشير إليه بإشارات الإعجاب والانبهار ..
صحيح أن البنوك الإسلامية لا تزال تراوح حول المسميات .. ولا تزال تأتمر بأمر البنوك المركزية حول العوائد والأرباح ومعدلات الليبور … وغيرها .. غير ان محافظي البنوك المركزية في معظم الدول الإسلامية أصبحوا أعضاء في مجلس الخدمات المالية الإسلامية وغيره من المؤسسات الداعمة والمساندة لمسيرة البنوك الإسلامية وبالتالي فقد عرفوا خصوصية البنوك الإسلامية .. واعترفوا بضرورة وجود معايير خاصة لها ، شرعية وأخلاقية وإنسانية .. تراعي الأبعاد الاجتماعية والإنسانية كما تراعي الأبعاد الفنية والمهنية .. وهذا يعني أن التمويل الإسلامي يمكن أن تكون له خصوصية عالمية ، كما يمكن أن يسهم في تحقيق الاستقرار المالي العالمي ، وهذا ما أدركه كثير من المفكرين والباحثين في الشرق والغرب في أعقاب الأزمة المالية العالمية .

مشكلات اشتقاق المعايير الشرعية في العمل المصرفي الإسلامي أ.د كمال حطاب

04 February 2011

مشكلات اشتقاق المعايير الشرعية في العمل المصرفي الإسلامي

يبدو أن عملية اشتقاق المعايير أو المقاييس في الدراسات الإنسانية هي عملية مستمرة لا تتوقف ، ولا تزال الدراسات والبحوث تركز على مراجعة هذه المقاييس ، ومحاولة اكتشاف مقاييس حديثة أكثر دقة وعدالة .
وليست المعايير أو المقاييس الشرعية أقل أهمية من المقاييس التربوية أو النفسية أو الاجتماعية ، وبالتالي فهي تتطلب المزيد من الجهود من أجل زيادة الدقة والعدالة والكفاءة فيها، وهذا يستلزم وجود خبراء وأخصائيين في القياس والتقويم والرياضيات ضمن الهيئات الشرعية المكلفة بالتوصل إلى معايير أو مقاييس شرعية ، وهذا من شأنه أن يضبط المعايير ويجعلها أكثر دقة وإتقانا وعدالة .
وبما أن هذه المعايير ليست موضوعة للبنوك الإسلامية فقط ، وإنما يجري تطبيقها على كافة شرائح المجتمع ، فإنه ينبغي أن تراعى أحوال الناس ، وضروراتهم وحاجياتهم وتحسينياتهم ، من خلال هذه المعايير ، وهذا يعني ضرورة وجود من يمثل هذه الشرائح المجتمعية عند إعداد وصناعة المعايير ، كما يعني أن تكون المعايير ممثلة لكافة شرائح المجتمع .
إن وجود خبراء ومتخصصين من تخصصات أخرى إضافة إلى ممثلين قانونيين ونقابيين وممثلين عن البنوك المركزية ، من شأنه أن يجعل هذه المعايير أكثر دقة وعدالة ، وأكثر فاعلية وقبولا في التطبيق .
ومما يضعف أو يقلل من مصداقية المعايير الشرعية المطروحة حاليا . تعدد هذه المعايير بتعدد الجهات المصدرة لها ، فهناك المعايير الصادرة عن هيئة المراجعة والمحاسبة للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية في البحرين ، ومعايير مجلس الخدمات المالية الإسلامية في ماليزيا ، والهيئة الشرعية للتصنيف والرقابة ، والوكالة الإسلامية للتصنيف ، إضافة إلى قرارات مجامع الفقه وقرارات هيئات كبار العلماء أو الهيئات الشرعية التابعة للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية والتي يمكن أن يشتق منها مئات المعايير .
إن تعدد المجامع والهيئات والمجالس الشرعية قد يكون أمرا محمودا ، إذا ما وجد تنسيق وتشاور واتصال دائم فيما بينها ، إما إذا كانت متفرقة لا صلة بينها ولا تشاور ، فهذا يعني وجود تضارب قد يؤدي إلى الفوضى التي تفقد الناس الثقة بهذه المجامع والهيئات .
إن المعايير الشرعية المطروحة حاليا ، هي ثمرة جهود ضخمة مشكورة من قبل علماء الشريعة ، غير أنها ليست كافية لتمثيل كافة شرائح المجتمع ، كما أنها موجهة في الغالب للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية ، ولذلك فإنها بحاجة إلى جهود أخرى من قبل ممثلين عن كافة شرائح المجتمع ، من أجل أن تكون صالحة لتمثيل كافة فئات المجتمع .
ومن أجل مزيد من التوضيح ، لا بد من دراسة أحوال الناس والمتعاملين مع البنوك الإسلامية من حيث مدى التزامهم بتعاليم الإسلام بشكل عام . ومدى خضوع ظروفهم المعيشية لأحكام الإسلام السمحة .
لا بد من دراسة أحوال المسلمين والمتعاملين مع البنوك الإسلامية من حيث مستوياتهم الاقتصادية وبيان حدود الضرورات والحاجيات والتحسينات ، وتصنيف المجتمع إلى فئات بما يتناسب مع هذه المستويات الاقتصادية . وبالتالي فإن ما يمكن أن يكون جائزا للبعض قد يكون محرما للبعض الآخر وفق ظروفه ومستواه المعيشي .
فلا يعقل أن تكون المعايير التي تجيز المرابحة للآمر بالشراء في معاملة تمويل مولدات ضخمة لمصنع يتكلف ملايين الدولارات ، هي نفس المعايير والضوابط المطلوبة عند تمويل شراء بقرة أو أغنام لفلاحين معدمين . ولا يعقل أن تكون المعايير الموضوعة لتنظيم تمويل تجار ومستثمرين في صيغة الإجارة المنتهية بالتمليك هي نفس المعايير التي تنظم تأجير مساكن لمحدودي الدخل .
بل إن الأمر يمكن أن يكون أخطر من ذلك ، عندما يجد المستثمرون وأصحاب الشركات الكبرى من المحامين والقانونيين الذين يستأجرونهم من يستطيع أن يدافع عن حقوقهم ويحفظ مصالحهم في تعاملاتهم مع البنوك الإسلامية ، بينما لا يتأتي ذلك لمعظم فئات المجتمع الفقيرة والمتوسطة ، والتي تخضع في الغالب لعقود إذعان وظلم ، بمباركة ورعاية من قبل الهيئات الشرعية ، وبسكوت ولامبالاة من قبل واضعي ومنظمي المعايير الشرعية .
ويصبح الأمر في غاية الخطورة عندما يتم التسويق لهذه المعايير والمتاجرة بها من خلال شهادات تعطى لهذا المصرف أو ذاك مقابل رسوم أو مبالغ مالية .
ومما تقدم نجد أنه لا بد من وجود مؤسسة مدنية شعبية نقابية تمتلك الصلاحيات والأنظمة التي يمكن أن تصنف الناس وفق مستوياتهم المعيشية ، وتراعي هذه المستويات من خلال المعايير الشرعية ، قبل محاولة إخضاع البنوك الإسلامية للعمل بالمعايير الشرعية ، وقبل تصنيف المنتجات المالية الإسلامية من حيث الحل والحرمة .
كما أنه تقع على كاهل هذه المؤسسة مهمة كبيرة في إعادة تمحيص المعايير السابقة ، وتيسيرها للعمل والانتفاع بها ، كما أن عليها واجب وضع معايير عامة تصلح للاهتداء بها من قبل العملاء والأفراد غير المتخصصين .. وهذه مهام كبيرة ، سوف تشكل انجازا هاما في حقل الصيرفة الإسلامية ، إذا ما نجحت هذه المؤسسة في تحقيقها .
ومما يزيد من أهمية إيجاد هذه المؤسسة المدنية النقابية الشرعية أن معظم المعايير الشرعية لا تمتلك القوة الإلزامية القانونية ، بسبب عدم تبنيها من قبل البنوك المركزية في معظم الدول الإسلامية ، وعدم وجود مؤسسات حقوقية أو مدنية أو دينية تتبناها أو تدافع عنها .
وهذا يؤكد على ضرورة أن تقوم الجهات المعنية بالمعايير الشرعية ، بإعادة النظر في مسيرتها ، من أجل إشراك متخصصين من علوم أخرى ، وممثلين قانونيين ، وممثلين نقابيين ، وممثلين للبنوك المركزية ، وإيجاد مؤسسة مدنية نقابية شرعية ، تكون لها المرجعية المعيارية ، وتمتلك القوة الإلزامية القانونية للعمل بالمعايير الشرعية ، بما يحافظ على مصالح المالكين للمصارف الإسلامية ، وبما يحمي جمهور المتعاملين معها من الاستغلال والظلم الذي تنطوي عليه عقود الإذعان وغيرها من الصيغ التي لا تنسجم مع أصول الصيرفة الإسلامية ، وتتعارض مع أبسط القواعد والمقاصد الشرعية .

صحيفة الاقتصادية الإلكترونية السبت 25 صفر 1432 هـ. الموافق 29 يناير 2011 العدد 6319

العولمة وأثرها على العمل المصرفي الإسلامي أ.د كمال حطاب

23 January 2011

العولمة وأثرها على العمل المصرفي الإسلامي
أ.د كمال حطاب
بدأ مصطلح العولمة في الظهور والانتشار عالميا في التسعينات من القرن الماضي، وقد استمر في تصدر الأدبيات الاقتصادية إلى أن ظهرت الأزمة المالية العالمية عام 2008 ، حيث احتلت الأزمة المالية العالمية المكانة الأولى في الأخبار الاقتصادية على مستوى العالم ، وليس معنى ذلك أن مصطلح العولمة قد اختفى أو أنه آخذ بالانحسار ، ولكن ذلك يعني أن قوى العولمة قد أصابها ما أصاب العالم من تراجع وتباطؤ وركود وبالتالي خسائر وانهيارات وإفلاسات لحقت بكافة مرافق وقطاعات الاقتصادات المتقدمة والمتخلفة .
إن قوى العولمة المتمثلة في الشركات المتعددة الجنسية والمنظمات الاقتصادية والمالية الدولية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير ومنظمة التجارة العالمية ، قد اصيبت بالشلل بفعل الأزمة المالية العالمية ، ولا تزال تتخبط كالذي يتخبطه الشيطان من المس ، ولا يستطيع أحد أن يجزم حول النهايات الأكيدة لهذه الأزمة .. غير أن ما يمكن الجزم به هو أن العالم بكافة قطاعاته الاقتصادية والمالية بحاجة إلى سنوات طويلة لكي يتعافى من هذه الأزمة ، وهو لا شك بحاجة إلى فترة نقاهة طويلة يتخلص خلالها من إدمانه الربوي وأنشطته المالية العبثية العقيمة . كما أنه بحاجة ماسة إلى أن يتعاطى شيئا من القيم والمثل والفضيلة إضافة إلى أنشطة مالية أكثر عدالة وإنتاجية .
فمع ظهور الأزمة المالية العالمية والتي كانت نتيجة حتمية لتغول قوى العولمة وطغيانها .. أخذ العالم يعترف شيئا فشيئا بصوابية العمل المصرفي الإسلامي وبطلان العمل المصرفي الربوي الذي أوصل العالم إلى هذه النهاية المأساوية .
ويمكن القول بأن بعض الفضل في الانتشار السريع للعمل المصرفي الإسلامي يرجع إلى العولمة وسعيها الدؤوب لتحقيق الأرباح ، حيث تقاطع هذا السعي مع توافر رأس المال الإسلامي الذي يخوض العالم بحثا عن فرص الاستثمار الأكثر أمانا والأقل خطرا .
وقد احتضنت البنوك والمؤسسات المالية الدولية التقليدية رؤوس الأموال الإسلامية ووفرت لها نوافذ إسلامية وصناديق استثمار إسلامية وصناديق تحوط إسلامية ومؤشرات داو جونز إسلامية .. الخ ، بل تطور الأمر إلى أن طورت كثير من الدول الغربية من تشريعاتها لكي تشمل العمل المصرفي الإسلامي ، ولعل من أبرز هذه الدول بريطانيا والتي تعتبر أول بلد أوروبي يسن تشريعات قانونية للإشراف والمراقبة على المؤسسات المالية الإسلامية من قبل الجهات المعنية ، وقد منحت ترخيصا في عام 2004 ، للمصرف الإسلامي البريطاني لمزاولة نشاطه فيها .
كما وجدت في بريطانيا برامج دراسية متخصصة على مستوى البكالوريوس والدراسات العليا في التمويل والمصارف الإسلامية من قبل بعض الأقسام أو المراكز العلمية التابعة لجامعات إما بمفردها أو بالتعاون مع مؤسسات إسلامية لاعتماد برامجها التعليمية ، ومنها :جامعة هريوت وات بأدنبرة في اسكتلندا ، وجامعة درم ، وجامعة لفبرة ، وجامعة بورتسثموث وجلوستر ، وليستر ن وداربي ، وبرادفورد … وكذلك مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية … الخ
وتسير كثير من الدول الأوروبية كفرنسا على نفس النمط البريطاني في التعامل مع التمويل الإسلامي ومؤسساته ، وهذا يؤكد حقيقة أن العولمة قد مهدت الطريق للتمويل الإسلامي ومؤسساته للانتشار في الغرب وفي سائر دول العالم .
لقد ساهمت العولمة ودون قصد منها بالارتقاء بالعمل المصرفي الإسلامي فنيا ومهنيا وذلك عن طريق العمل بمقررات بازل 1 وبازل2 ووكالات التصنيف الائتمانية العالمية ، وتطوير الصكوك الإسلامية عالميا ، وظهور ابتكارات ومنتجات مالية إسلامية عالمية من خلال الهندسة المالية الإسلامية .
إن الاتجاه نحو الصيرفة الإسلامية والتمويل الإسلامي أصبح حقيقة واضحة لا يستطيع أحد أنكارها ، وقد ساهمت العولمة دون قصد منها أو إعجاب بالنظام المصرفي الإسلامي ، ساهمت في تعزيز الاتجاه نحو الصيرفة الإسلامية سعيا وراء الأرباح والسيطرة على الأسواق وجذب أكبر كمية من المدخرات العالمية .
وسواء كان هذا الاتجاه بقصد التطهر والتسامي والاستفادة من بركات الصيرفة والتمويل الحلال وهو أمر مشكوك فيه . أم كان بقصد اغتنام الفرص وجذب أكبر عدد من العملاء الذين يحرصون على تطهير أنفسهم وأموالهم من مستنقع الربا والفوائد الربوية ، فإن الصيرفة الإسلامية والتمويل الإسلامي قد غدا حقيقة لا تقبل الشك ، يتطلع إليه المسلمون في العالم ، كما يتطلع إليه المنصفون والمؤيدون للأنشطة الطيبة النافعة والمقاطعون للأنشطة الخبيثة والضارة على مستوى كافة دول العالم .
إن هذه المكانة العالمية للعمل المصرفي الإسلامي تزيد في المسئولية الملقاة على كاهل الخبراء والباحثين والمتخصصين في هذا المجال من أجل استمراية المحافظة على سلامته الشرعية وكفاءته المالية والاقتصادية .

ماذا يمكن أن يفعل صندوق النقد الدولي تجاه التمويل الإسلامي أ.د كمال حطاب

23 January 2011

ماذا يمكن أن يفعل صندوق النقد الدولي تجاه التمويل الإسلامي
أ.د كمال حطاب
وجد صندوق النقد الدولي في أعقاب مؤتمر بريتون وودز عام 1944 ، ليمد يد العون لكافة الدول الأعضاء بما يؤدي إلى تحقيق الاستقرار النقدي والاقتصادي العالمي .
ومنذ السبعينات من القرن الماضي تدخلت السعودية وبالتحديد عام 1979 لإنقاذ الصندوق الذي كان يوشك على الإفلاس ، وذلك بإقراضه عشرة مليارات دولار ..
ومع ازدهار البلدان الإسلامية والتمويل الإسلامي في الثمانينات ، فقد أعطى الصندوق اهتماما أكبر لرؤوس الأموال الإسلامية ، وللتمويل الإسلامي بشكل خاص .
وفي وقت متأخر من التسعينات أخذ الصندوق يشير في تقاريره إلى التمويل الإسلامي ، ويشيد بمؤشرات الأداء لمؤسسات التمويل الإسلامي .
وقد ركز الصندوق بشكل خاص على عمليات إصدار الصكوك الإسلامية بدلا من السندات من خلال تقديم الخبرات الفنية ودعم التصنيفات الائتمانية ، إضافة إلى مشاركته في إنشاء مجلس الخدمات المالية الإسلامية ، وعدد من المؤسسات الداعمة للصيرفة الإسلامية .
وقبل إن نتطلع إلى مستقبل علاقة الصندوق مع التمويل الإسلامي ، وهل سيتبنى التمويل الإسلامي أم سيعمل على عرقلة انتشاره ومحاربته ؟ لا بد من النظر في واقع الصندوق وحجمه في الوقت الحاضر ، خاصة في أعقاب الأزمة المالية العالمية .

فقد اعترف دومينيك ستراوس- كان ، المدير الحالي لصندوق النقد الدولي – وأثناء لقائه مجموعة من طلبة الشرق الأوسط – بأن الصندوق قد فشل في مواجهة الأزمة المالية العالمية المعاصرة ، وما ترتب عليها من فوضى اقتصادية على مستوى العالم .
وهذا يشير إلى أن الصندوق يجد نفسه حاليا في وضع حرج ، لا يكاد يجد طريقة للخروج منه . وبالتالي فإن الصندوق بحاجة إلى إعادة تسويق نفسه وتحسين صورته وتجميل أدائه على مستوى العالم ، ولعل هذا يفسر الجولة الأخيرة التي قام بها المدير الحالي للصندوق والتي يمكن أن تدخل تحت إطار جولات العلاقات العامة ، أو الدعاية السياسية ، حيث التقي مع طلاب من الشرق الأوسط ، وأعلن صراحة وقوفه إلى جانب الطلبة ومستقبلهم وتشغيلهم .
وبالرجوع إلى موضوع التمويل الإسلامي فإن الصندوق يعترف بصراحة ومن خلال مسئوليه بأن مهمته تنحصر في إطفاء الحرائق ، يعني معالجة الاختلالات الطارئة ، كما أنه يمكن أن يدعم كل ما من شأنه أن يحقق مصالحه ، ومصالح الدول التي تمتلك معظم الحصص ، فهذه الدول كما يرى ستراوس كان من حقها أن تحافظ على مصالحها ، وتحمي أموالها التي يديرها الصندوق .
ومعنى ذلك أن التمويل الإسلامي يخضع لمصالح هذه الدول الكبرى ، فإن كان في مصلحتها دعم التمويل الإسلامي والتعامل معه فإن الصندوق سوف يقوم بتبنيه ، وربما يدعو حكومات الدول الإسلامية إلى تبنيه، أما إذا كان التمويل الإسلامي ضد مصالح الدول المتقدمة ، فلا شك أن الصندوق سوف يحاربه ويقف ضده .
وبما أن التمويل الإسلامي لا يتعارض مع سعي المؤسسات والأفراد لتحقيق مصالحهم، بل هو يحث على القيام بكل ما من شأنه زيادة المصالح ودرء المفاسد ، فإنه لا يبدو أن هناك تعارضا ظاهرا بين أهداف الصندوق الظاهرة وأهداف التمويل الإسلامي ، وبالتالي فلا يوجد ما يمنع من إشادة الصندوق المتكررة بنظام التمويل الإسلامي ، وهذا ما حدث بالفعل في عدد من تقارير الصندوق .
غير أن الصندوق يسعى لتحقيق مصالحه بعيدا عن القيم الإنسانية والاجتماعية ، فمن المعروف أنه يدعم الحكومات المطيعة لبرامجه ، ولا يتدخل في التفاصيل ، وبالتالي فإنه ليس له علاقة بالديمقراطية أو حقوق الإنسان .
ومن جهة أخرى فإن أكثر من ستين عاما من التطبيق تثبت أن الصندوق فشل في القيام بمعظم أهدافه التي أعلنها في اتفاقية إنشائه . فقد غرق العالم في تقلبات عنيفة لأسعار صرف العملات ، وعجوزات هيكلية لموازين المدفوعات ، ومديونات هائلة . ونقد دولي غير مستقر ، مما أدى إلى فقدان الثقة بين الدول الأعضاء في تسيير وتسوية مدفوعاتها .
إن صندوق النقد الدولي بحاجة إلى إصلاح في آلياته ووظائفه وحصصه وطريقة تصويته وبالتالي فهو بحاجة ماسة إلى الأخذ بآليات نظام التمويل الإسلامي ، وفيما لو حصل ذلك فسيكون في ذلك مصلحة لكافة دول العالم بكافة مؤسساتها المالية والاقتصادية والاجتماعية . ولكن ذلك يقتضي أن يؤخذ بالتمويل الإسلامي دون تشويه أو تحريف أو تحايل ، كما يعني عدم تطعيم أدوات التمويل الإسلامي بالتمويل الربوي ، كما يعني المحافظة على القيم والمبادئ الإنسانية والاجتماعية التي يقوم عليها نظام التمويل الإسلامي .

All Rights Reserved © www.KamalHattab.info  |  [email protected]