أنتم تضيعون وقتكم أ. د كمال توفيق حطاب
أنتم تضيعون وقتكم
كمال توفيق حطاب
كلمات ثلاث ، قالها لي أستاذ كبير في جامعة أم القرى حين نظر إلي وإلى رسالتي التي كنت فرحا بها ، وقد حصلت للتو على درجة الدكتوراه في الاقتصاد الإسلامي من جامعة أم القرى عام 1990 .
كذبت أذناي ما سمعت وبادلته بابتسامة ومجاملة ، فلا شك أن ما سمعته منه ربما تكون له معان أخرى لم أفهمها في ذلك الوقت .. غير أنني وبعد سنوات من هذا الموقف قرأت في كتابه ” واقعنا المعاصر ” ما فسر تلك العبارة .. فهو يرى أن الباحثين والدارسين للاقتصاد الإسلامي يضيعون وقتهم نظرا لعدم وجود حكومات تتبنى أو تطبق سياسات الاقتصاد الإسلامي .. وإذا وجدت هذه الحكومات في أي وقت من الأوقات فسوف تكون المشكلات مختلفة ، وبالتالي فهي تتطلب دراسات جديدة ..
لقد قلت في نفسي في ذلك الوقت إن هذا الكلام ليس دقيقا .. فإعداد جيل من الباحثين في الاقتصاد الإسلامي سوف يؤدي إلى التأثير على صانعي القرار .. ومن ثم التغيير المتدرج في السياسات الاقتصادية والتطهير المستمر لإدارات الدول الإسلامية من الفساد الإداري والمالي والاقتصادي .
غير أن الواقع أثبت أن نظرتي لم تكن دقيقة وأن الشيخ محمد قطب رحمه الله كان بعيد النظر .. ثاقب الفكر .. فها هو الاقتصاد الإسلامي يغرق في التنظير والترف الفكري أو الجدالات الفقهية الاقتصادية .. ولم يستطع اقتصادي إسلامي واحد أن يتبوأ منصبا وزاريا يطبق من خلاله سياسات الاقتصاد الإسلامي.. وحتى الذين حصلوا على جوائز عالمية ، بقيت كتاباتهم وبحوثهم العلمية القيمة حبيسة الأرفف والمواقع الإلكترونية .. وحتى الحكومات التي رفعت شعار الأسلمة وتطبيق الإسلام لم تستطع التخلص من شروط صندوق النقد والبنك الدوليين .. وبالتالي استعانت بوزراء ومسؤولين يؤمنون بالاقتصاد الغربي ويطبقون تعاليمه المادية ولا يعترفون بأي اقتصاد لا يعترف بسعر الفائدة ..
لقد سار الاقتصاد الإسلامي خلال العقود الثلاثة الأخيرة في مسارين منفصلين ، مسار التنظير العلمي الذي ينتظر التطبيق الاقتصادي والسياسي والاجتماعي للإسلام ، ومسار الصيرفة الإسلامية ، ويبدو أنه لولا نجاح المسار الثاني لكان المسار الأول قد طمس وربما أهمل وطواه النسيان ..
غير أن نجاح مسار الصيرفة الإسلامية وازدهار أقسام المصارف الإسلامية في الجامعات وانتشار وتفوق البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية على مستوى العالم .. لم يكن مسارا مفروشا بالورود .. بل كان محفوفا بالمخاطر والعقبات والتنازلات والمزايدات ..
فالصيرفة الإسلامية في طريقها للنجاح والانتشار خضعت لشروط أصحاب رؤوس الأموال ، وخضع معظم العاملين فيها لهيمنة أصحاب رؤوس الأموال والحوافز والمنح التي يقدمونها لمن يريدون الانتفاع به ، سواء في الترويج أو التسويق أو حتى التطوير الشرعي أو الهيكلة الشرعية ..
أما الاقتصاد الإسلامي فبقي في إطار التنظير .. وظل حبيس البحوث والكتب والموسوعات التي تنتظر التطبيق .. ولم يجد له من يدافع عنه أو يتبناه أو يدعمه ، سوى الباحثين الأكاديميين الاقتصاديين والشرعيين وبعض أصحاب رؤوس الأموال الغيورين على دينهم وقيمهم ..
وبالرغم من ضعف اهتمام الحكومات وأصحاب رؤوس الأموال بالاقتصاد الإسلامي ، واتجاههم للاهتمام بالتمويل الإسلامي والمصارف الإسلامية .. إلا أننا لا يمكننا أن نقلل من الأدب النظري الضخم الذي تكون في الاقتصاد الإسلامي خلال العقود الأربعة الماضية .. كما لا يمكننا أن نفصل كليا بين الاقتصاد الإسلامي والتمويل الإسلامي ، فكلاهما مكمل للآخر .. ولولا الأدب النظري المصرفي الإسلامي لما وجدت البنوك الإسلامية أو المؤسسات المالية الإسلامية ..
ومهما بدا الواقع قاتما ، فإن مما نعتقد به ولا يمكننا التنازل عنه أن المستقبل للاقتصاد الإسلامي ولكافة العلوم الشرعية المنبثقة من هذا الدين .. فالمستقبل لهذا الدين بكافة أجزائه وأنظمته .. “ويأبى الله إلا أن يتم نوره “..
غير أن المطلوب من العلماء والأكاديميين والباحثين في الاقتصاد الإسلامي ، أن يتداعوا إلى كلمة سواء تجمع كلمتهم بحيث يكون لها وزن وقوة .. وأن يعملوا على تحصين أنفسهم بمنظومة قانونية وتشريعية ، وتكوين نقابات أو جمعيات تستطيع حماية مصالحهم والدفاع عن حقوقهم ، بحيث لا تملك الحكومات إلا أن تحترمهم وتأخذ بأفكارهم ، ولا يملك أصحاب رؤوس الأموال إلا تطبيق نتائج بحوثهم ودراساتهم .