نظام السوق والأخلاق أ.د كمال توفيق حطاب
نظام السوق والأخلاق
أ.د كمال توفيق حطاب
في ظل أجواء المنافسة ونظام السوق ، وتفاعل قوى العرض والطلب بحرية في الأسواق ، يصبح لكل شيء ثمن ، ويصبح الذين يمتلكون الأثمان هم الذين يحددون لكل شيء قيمته ، ويسيطرون على كل شيء ، فكل ما يعرض يكون تبعا لطلبات هؤلاء ، ورغباتهم ، يصدق هذا على السلع والخدمات بكافة أشكالها وأنواعها .. كما يصدق على الجهود البدنية أو الذهنية .
فالجميع مصوتون كما يقول ساملسون ، ومن لديه أكثر الأصوات يستطيع أن يحدد ما يوجد في السوق ، من سلع أو خدمات أو أعيان ومنافع أو علوم ونظريات ، أو حتى أفكار ومبادئ ..
ففي مجال الطب يستطيع قانون العرض والطلب أن يحدد شكل المستشفيات والأطباء وأنواع الأدوية وطرق العمليات السائدة ..
وفي مجال الهندسة يستطيع أن يحدد شكل العمارات والشوارع والجسور ، وحجم المباني ، وطريقة البناء ، وجنسيات العمال والمهندسين ، وأنواع الحديد والإسمنت … إلخ
وإذا كان ذلك ممكنا في المجالات المادية والتجارية ، فهل يصح أن ينطبق قانون العرض والطلب على الأخلاق والمبادئ والعقائد والأديان ؟ هل يصح أن ينطبق على العلوم والقوانين والنظريات ؟
في الغرب المادي صيغت كثير من النظريات الاقتصادية لمصلحة أصحاب رؤوس الأموال ، فها هو القانون الحديدي للأجور ، وها هي نظريات السكان التشاؤمية تخضع لتأثير أصحاب المصالح .. وذلك يدل على خضوع العلماء والمفكرين لهيمنة وسطوة رؤوس الأموال ..
ولكن هل يمكن أن يخضع العلم الشرعي للعرض والطلب ؟ هل يمكن أن تخضع الأخلاق والمبادئ للعرض والطلب ؟
يبدو ، ومع شديد الأسف أن ذلك ممكن أيضا ، فكما هو قانون جريشام ” النقود الرديئة تطرد النقود الجيدة من السوق” كذلك الفتاوى الرديئة أو المترخصة تطرد الفتاوى الجيدة أو الأكثر صوابا .. كما أن العلماء المتساهلين يطردون العلماء الربانيين .. وهكذا .. الكل يخضع للعرض والطلب ..
ولو رجعنا إلى الطب مرة أخرى .. فسوف نجد أن مهنة الطب مهنة إنسانية بالدرجة الأولى ، ومعظم الأطباء لديهم دوافع إنسانية عالية ، ولكن الشركات الطبية المنتجة للأدوية والأجهزة والتغذية .. لديها دوافع أخرى ، فدافع الربح وتحقيق أقصى ربح هو الهدف الأول . وبالتالي فهذه الشركات لديها أثر كبير في كل ما يعرض أو يختفي من الأسواق من أدوية أو أجهزة طبية .. ولديها تأثير كبير في الوصفات الطبية والأنماط العلاجية والاستهلاكية .. وذلك من خلال وسائل الترويج المختلفة .. ومن خلال مندوبي المبيعات والتسويق والإعلانات .. إلخ .. بل يمكن القول أن هذه الشركات لديها أثر كبير في مناهج كليات الطب وغيرها من خلال تركيزها على دعم البحوث العلمية التي تحقق لها أرباحا أكبر .. وإهمال البحوث التي لا تتوقع أن تحقق أرباحا .,
إن ما يحدث في الطب ومع الأطباء وهي من أقدس المهن الإنسانية ، هو نفسه الذي يحدث في كافة المجالات العلمية ..
ففي المجال السياسي يفوز غالبا من يدفع أكثر ، وكذلك في المجال الاجتماعي يفوز بالحسناء من لم يغله المهر .. أما في المجال الاقتصادي والمصرفي فإن المسألة هي أوضح بكثير .. فالسلعة المطلوبة هي التي تنتج ، والسلعة أو الخدمة غير المطلوبة سوف تختفي من السوق ولن يتم إنتاجها ثانية ، وكذلك في الصيرفة الإسلامية ، فالمنتجات المطلوبة سوف تنجح وتنتشر ، أما المنتجات غير المطلوبة فسوف تختفي ، حتى لو كانت المنتجات المطلوبة محفوفة بالشبهات كالتورق المنظم أو العينة ، فإنها سوف تجد لها من يصفق ويهلل ويبارك ..
ويبدو أن العصر الذي نعيشه ، عصر نظام السوق والعرض والطلب ، لا مجال فيه للأخلاق والمبادئ ، إلا في أضيق حدود ..