تضليل الأرقام أ.د كمال حطاب
تضليل الأرقام
أ.د كمال حطاب
يبدو أن الرأسمالية المعاصرة لا تتورع عن أية وسيلة أو أداة توصلها إلى تحقيق أغراضها ومكاسبها في كافة المجالات وفي شتى البلدان .
ولعل أسلوب تضليل الأرقام والإحصاءات من الأساليب القديمة التي دأبت الشركات والمنظمات الدولية على استخدامها من أجل تدجين الشعوب وترويضها للقبول بأية ظاهرة أو سلوك في كافة المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتربوية .. الخ .
غير أن الأساليب الحديثة في التضليل بالأرقام أصبحت مكشوفة ولا تنطلي على من له أدنى معرفة بالعلوم الاقتصادية أو بعلم الإحصاء ..
فعندما تشير الأرقام إلى أن هناك زيادة في نسبة النمو الاقتصادي أو زيادة في متوسط دخل الفرد أوانخفاضا في عجز الموازنة أو تراجعا في المديونية .. الخ ، بينما نجد أن الأحوال المعيشية للشعوب في تراجع وأن هناك أرتفاعا في مستوى الأسعار ، وانخفاضا في القوة الشرائية للعملة ، فمعنى ذلك أنه يوجد تضليل في الأرقام .
وفي المجال الاجتماعي يستخدم تضليل الأرقام بشكل كبير للتدليل على حرص الحكومات على السلامة والصحة البدنية والنفسية للمواطنين ، فعندما تنطلق حملات وشعارات للعناية بصحة الأطفال ومحاربة بعض الأمراض التي تهاجم الأطفال ، وتبين أن نسبة وفيات الأطفال أقل من خمس سنوات هي 20% ونسبة الشلل .. ونسبة التوحد ..
فإن الغرض الأساسي هو الترويج لحملات تحديد النسل والأدوية والأدوات التي تمنع الحمل .. وهكذا .. تستخدم لغة الأرقام والإحصاءات في الوقت الحاضر وفقا للغاية المرجوة سواء كانت خيرا أم شرا .. فإذا أرادت المنظمات الدولية أن ترفع اقتصاد بلد ما ، يمكنها أن تأتي بالأرقام التي تشير إلى ذلك ، والعكس فإذا أرادت أن تخسف اقتصاد بلد ما ، فيمكنها أيضا أن تأتي بالأرقام والنسب والتوقعات التي تثبت ذلك ..
وتقوم المؤسسات والمنظمات والوكالات الدولية باستغلال هذه الخاصية للأرقام للتأكيد على ما ترغب به من رفع لاقتصاد للبلد أو خفض له وفقا لمدى تبعية أو خضوع البلد المعني لسياسات الدول المهيمنة على الاقتصادات العالمية .
وقد برع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ووكالات التصنيف الإئتمانية في هذا المجال .. بحيث أصبحت الدول تحسب لهذه المؤسسات ألف حساب .. فما أن يصل وفد من صندوق النقد الدولي إلى أي بلد .. حتى تعلن تلك البلد حالة الاستعداد القصوى من أجل إرضاء هذا الوفد وإظهار البلد بالصورة التي يرضى عنها وفد الصندوق .. فإذا غادر وفد الصندوق غاضبا تدهورت الأرقام وانخفضت المؤشرات الاقتصادية لذلك البلد ..
ولم يشذ عن هذه القاعدة في العصر الحاضر سوى بلدين .. ماليزيا عندما كان مهاتير محمد رئيس وزرائها .. ورفض وصايا الصندوق .. واستطاع أن يقول لا لصندوق النقد الدولي .. ومع ذلك تحسنت المؤشرات والأرقام وخرجت ماليزيا من الأزمة ..
وكذلك تركيا في عهد أردوغان والتي سددت قروضها للصندوق .. بل وأقرضت الصندوق ..وزادت من معدلات النمو الاقتصادي في كافة المجالات ..
وقد حاولت بعض وكالات التصنيف الائتماني بعد الانقلاب الفاشل تخفيض التصنيف الائتماني لتركيا .. ولكنها لم تنجح أمام قوة الاقتصاد التركي وثقة الأتراك بأنفسهم وباقتصادهم ، وقد واجهوا تلك المحاولات بإجراءات عملية ، زادت من ثقة الأفراد والمستثمرين بالاقتصاد التركي ، وبالتالي لم تنجح تلك التصنيفات أو الإحصاءات في تغيير الواقع أو الحقائق .
صحيح أن الإشاعات والأرقام المغلوطة قد تثني المستثمرين الأجانب أو تعيق النمو الاقتصادي .. غير أن الحقائق سرعان ما تتكشف ويعود كل شيء إلى طبيعته .
إن عصر الشفافية والحوكمة ووسائل التواصل الاجتماعي ، لا تقبل بإخفاء الحقائق ومصادرة الحريات .. فمهما تغولت هذه المؤسسات والوكالات .. ومهما بالغ الخبراء والمحللون .. فإن الحقائق سرعان ما تتكشف ، ويعود كل شيء إلى حقيقته ، وينال كل نصيبه الذي يستحقه ..