قراءة لبعض أفكار فريدمان في كتابه ” السيارة لكزاس وشجرة الزيتون” أ.د/كمال حطاب
قراءة لبعض أفكار فريدمان في كتابه ” السيارة لكزاس وشجرة الزيتون”
أ.د/كمال توفيق حطاب
يشبه توماس فريدمان في كتابه “السيارة لكزاس وشجرة الزيتون” تحركات رأس المال الإلكتروني في أسواق كثير من الدول النامية بتحركات القطيع عندما يرد الماء أو المرعى ، فما أن يشعر بأدنى درجات الخطر ، حتى يحدث الهروب المذعور للقطيع بكامله ، ثم ما يلبث أن يعود عند شعوره بالأمان ، وهكذا ..وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على مدى جبن رؤوس الأموال وأنانيتها ، فهي لا علاقة لها بمصلحة الدول التي تتواجد فيها ، إلا في حدود ما تدره عليها من فوائد وعوائد .
غير أن القطيع الذي تحدث عنه فريدمان هو قطيع إلكتروني يتحرك عبر ذبذبات إلكترونية من خلال شاشات الكمبيوتر المنتشرة في جميع أسواق العالم ، وبالتالي فإن عملية الهروب المذعور للقطيع الإلكتروني ستكون أسرع بكثير من هروب القطيع الحيواني .
ثم يقرر بأن القطيع الإلكتروني هو مصدر الطاقة في القرن الحادي والعشرين ، ولا يمكن كبح جماح هذا القطيع حتى لا يحدث الهروب المذعور مرة أخرى ، ولذلك يجب أن تتعلم الدول كيف تتعامل مع هذا القطيع ، حيث يقول ” فإن النهج الاقتصادي الجغرافي الصحيح هو التركيز على تقوية هذه الدول المقترضة السيئة ، بحيث تستطيع الالتحام بالقطيع مرة أخرى ، وأن تكون مقاومة للهروب المذعور قدر الإمكان ، ولسوف يظل الهروب المذعور للقطيع ممكن الحدوث .. ولكن القطيع لا يظل مندفعا إلى الأبد ، ففيما عدا بعض الاستثناءات النادرة ، فإنه لا يجري هاربا من الدول ذات النظم المالية السليمة التي تتبع سياسات اقتصادية سليمة ”
إن التحليل السابق لتوماس فريدمان بالنسبة لقطيع رأس المال الإلكتروني ، يعبر بصورة صريحة وصادقة عن منطلقات المستثمرين الأجانب وتوجهاتهم في تحريكهم لرؤوس الأموال من بلد إلى آخر ، فالهدف من وجهة نظرهم حصد الأرباح والعوائد بأي شكل من الأشكال ، ولا يهمهم مصلحة الدول التي يستثمرون فيها إلا بما يخدم هذا الهدف .
يعتبر الاستثمار الأجنبي في نظر الخبراء الدوليين من أهم أشكال التمويل الدولي ، ولذلك يطلق أحيانا كمرادف للتمويل الدولي ، خاصة وأن التمويل الدولي يقوم على تحقيق مصالح مادية للممولين قبل أي شيء آخر ، ولا يلتفت كثيرا إلى الدوافع الإنسانية .
فالقروض الدولية تهدف إلى الحصول على الفوائد ، أو تمكين المقترضين من استيراد سلع ينتجها المقترضون .. الخ ، وكذلك المعونات والمنح الأجنبية .
ويعترف فريدمان في كتابه بأن أكبر تهديد للنظام المالي الدولي يأتي من الأزمات التي يشعلها المقرضون السيئون ، والمقترضون السيئون ، وهذا الاعتراف يمثل انتصارا للنظام المالي الإسلامي ، والذي حرم منذ البداية كافة أشكال الإقراض والاقتراض المبني على الفائدة ، لأن الإقراض والاقتراض السيء الذي تحدث عنه فريدمان لا يتم التعامل به إلا بنظام الفائدة الربوي .
لقد ظل فريدمان طوال كتابه يبحث عن الحلول للأزمات التي تشتعل هنا وهناك ، وكان يرى أنه لا بد من ضوابط ، ولكنه لم يستطع تقديم هذه الضوابط لأنه يعتبر الإقراض والاقتراض السيء أمرا مشروعا .
بينما يقدم النظام المالي الإسلامي هذه الضوابط ببساطة ، من خلال إلغاء كافة أشكال الإقراض والاقتراض السيء ( الربوي) وإبداله ، بمشاركة رأس المال للعمل في العمليات الاستثمارية الإنتاجية ، والتي تزيد في التشغيل والإنتاج الحقيقي ، وبالتالي تزيد من التنمية والتقدم ، وقد أثبت هذا الأسلوب نجاحة على المستوى الدولي في كثير من بلدان العالم ، خاصة في مشروعات BOT والتي تعتمد البناء والتشغيل ونقل الملكية . وكذلك كافة أشكال وأدوات التمويل الإسلامي التشاركية .
وبالعودة إلى فريدمان في كتابه ، نجد أنه يرى ضرورة اشتراك الجميع في النظام المالي العالمي ، وهو يشبهه بالاشتراك في سباق سيارات فرمولا 1 ، فهذا السباق تزداد سرعته سنويا ، ولا بد أن تصطدم بعض السيارات أو تنقلب أو تحترق ، ولكن السباق يستمر سنة بعد أخرى ، والعالم يتقدم ، أما غير المشتركين في السباق ، والذين يمكن أن يمارسوا رياضة المشي ، فإنهم لن يكونوا بمأمن من أن تصدمهم إحدى سيارات السباق .
إن هذه النتيجة تبدو نتيجة عقلانية منطقية ، غير أن حسابات الخسائر والمكاسب أو المفاسد والمنافع هي التي يجب أن تقرر اشتراك الدول الإسلامية أو عدم الاشتراك ، وذلك في ظل الضوابط والقواعد الشرعية ، مثل درء المفاسد مقدم على جلب المنافع ، ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ..الخ
وبناء على ما تقدم فإنه يجب على الدول الإسلامية أن تعمل على الجمع بين مبادئها وقيمها وضوابطها الشرعية وكبح جماح الاستثمار الأجنبي من الهروب المذعور من أسواقها ، إذا كان هذا الاستثمار نافعا للدولة ومشروعاتها وتقدمها ومنسجما مع الضوابط والقيم والقواعد والمقاصد الشرعية .