الحيادية البحثية في العلوم الشرعية أ.د كمال حطاب
الحيادية البحثية في العلوم الشرعية
أ.د كمال حطاب
يهدف البحث العلمي بشكل عام إلى تطوير المعرفة والوصول إلى الحقيقة وحل المشكلات وتسهيل حياة الناس من خلال تذليل المشكلات والصعوبات التي تواجههم في كافة المجالات .
وبالرغم من اختلاف البحث العلمي في أهدافه الخاصة ومناهجه وأدواته من تخصص إلى آخر ، إلا أن الجامع بين كافة التخصصات هو الحيادية والتجريد والنزاهة وعدم التحيز واتباع الهوى .فهل يقوم البحث العلمي في العلوم الشرعية على الحيادية والتجريد ؟ إن الإجابة على هذا السؤال تتطلب التعرف على الأهداف الخاصة لكل علم من العلوم الشرعية ، فعلم الفقه مثلا يهدف إلى الوصول إلى الحكم الشرعي للمسائل والجزئيات العملية التي تعترض حياة الناس . والمنهج الفقهي التجريدي يقوم على تحرير محل النزاع ، من خلال تحديد كافة المتعلقات بالمسألة الواحدة وإخراج العناصر المتفق عليها بين الفقهاء من البحث ، والتركيز على جزئية واحدة مختلف حولها من أجل حصر كافة الأدلة الشرعية والآراء الفقهية وفحصها ومناقشتها وعرض ردود الفقهاء ومناقشاتهم للأدلة .. إلى أن يصل الفقيه إلى الحكم الشرعي ، بعيدا عن الهوى والتعصب أو الضغوط السياسية والاجتماعية .
فهل سار الفقهاء على هذا المنهج ؟ هل كانوا متجردين في بحثهم عن الحكم الشرعي في كافة العصور ؟
مما لا شك فيه أن الفقه في المئة الأولى والثانية يختلف عن الفقه في المئة الثالثة والرابعة إلى وقتنا الحاضر ، فقد كان الفقه في المئة الأولى متقيدا بالموضوعية والحياد والتجريد ، بعيدا عن الهوى وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، ليس أدل على ذلك من قصة الإمام مالك مع الخليفة المنصور ، عندما أراد الخليفة فرض كتاب الإمام مالك الموطأ على سائر الولايات والمناطق ، فرفض الإمام مالك : وقال إن الصحابة والفقهاء قد تفرقوا في الأمصار وإن لكل منهم فقه ورأي ، ولا يصح جمعهم على رأي واحد .. أما فيما بعد المئة الثالثة والرابعة ، فقد مال الفقهاء إلى التقليد ، وانتشر التعصب المذهبي ، وعكف كل فقيه على فقه شيخه أو مذهبه ، ولم يهمه كثيرا التجريد أو الموضوعية أو الحياد ، وهذا يعد انحرافا وابتعادا عن منهج البحث العلمي السليم .. وباستثناء بعض الفقهاء الموسوعيين الذين وضعوا كتبا في الفقه المقارن مع المذاهب الأخرى .. لا نكاد نجد إلا الفقه المذهبي الغارق في التعصب والانغلاق .
إن هذا الفقه المذهبي الغارق في التعصب والانغلاق هو الذي يدرس في عصرنا الحاضر في كثير من كليات الشريعة في العالم العربي والإسلامي ، فبعض الدول كتركيا ، يدرسون المذهب الحنفي بشكل خاص ، وبعضها كالسعودية المذهب الحنبلي ، ودول شرق آسيا المذهب الشافعي أما دول المغرب فيدرسون المذهب المالكي ، وهكذا نجد انغلاقا وانعزالا ، ولو وجد الأئمة الأوائل في العصر الحاضر لتراجعوا عن كثير من آرائهم الفقهية ولكان لهم مذاهب أخرى ..
إن اتباع منهج البحث العلمي الذي يقوم على الموضوعية والتجريد ، لا مكان فيه للأشخاص ، بل الكلمة الأولى للأفكار ، فكل الأشخاص سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤخذ من أقوالهم ويرد عليهم ، وكلهم مجتهدون يخطئون ويصيبون ، وبالتالي فلا قدسية ولا عصمة لكلامهم ، وقد كان الأئمة الأوائل ، يقرون بهذه الحقيقة ويفاخرون بها ، فها هو الإمام مالك يقول : كل أحد يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر ..
إن الحل للتعصب والانغلاق هو الرجوع إلى منهج البحث العلمي الذي يقوم على النزاهة والتجريد والموضوعية والحيادية ، وبدون ذلك لن يكون لعلم الفقه ولا لغيره من العلوم الشرعية دور حقيقي مؤثر في مختلف القضايا التي تواجهها الأمة الإسلامية .. لقد تأخرت الأمة الإسلامية قرون عديدة ، عندما ابتعدت عن الحيادية ، وأغلق العلماء باب الاجتهاد ، وتعصب كل لمذهبه ولشيخه ولإمامه لا يحيد عن أقواله أو متنه أو شرحه أو حاشيته ، ولو كان الشيخ أو الإمام حيا لغير كثيرا مما وضعه في ذلك المتن ، ولعل ظهور المذهب الجديد للإمام الشافعي بعد أن رحل إلى مصر وسكنها لعدة سنوات، وتراجعه عن كثير من جزئيات مذهبه القديم في بغداد ، لدليل قوي على ضرورة تطور الفقه ومواكبته للتطورات والمستجدات في كل زمان ومكان .. أما التعصب والاعتكاف على المذهب وما فيه من أقوال فقهية ، فليس هو المنهج الصحيح في تعلم الفقه وتمكينه من أداء دوره في خدمة المجتمع والارتقاء بحياة الإنسان ورفاهيته .