الموت جوعا أو الموت بالكورونا أ.د كمال حطاب
تحاول العديد من الدول المتقدمة في الوقت الحاضر الاختيار بين الموت جوعا بسبب آثار الحجر الصحي على الاقتصاد ، وبين الموت مرضا بالكورونا ، وفي حالة بعض الولايات الأمريكية في الوقت الحاضر فإنها لا تريد الموت جوعا بسبب إغلاق الاقتصاد ، وتحاول مواجهة الكورونا مع أخذ الاحتياطيات اللازمة ، وكذلك بعض الدول الأوروبية كإيطاليا وإسبانيا ، ومع ذلك تبقى المخاطر كبيرة جدا .
إن الآثار الاقتصادية والاجتماعية المترتبة على الحجر الصحي ، هي آثار خطيرة على المدى الطويل ، ولكنها مع ذلك قد تكون أرحم بكثير من آثار انتشار المرض واستفحاله في الناس .. فالموت جوعا لا يمكن أن يكون نتيجة للحجر الصحي مهما بلغت شدة هذا الحجر وقسوته .
إن الحجر الصحي الشامل قد يؤدي إلى انخفاض الطلب على السلع الكمالية وإلى كساد هذه السلع ، وربما يكون ذلك في مصلحة المجتمع ، لأن معظم هذه الكماليات يمكن الاستغناء عنها ، كما يؤدي الحجر الصحي إلى زيادة الطلب على السلع الأساسية ، وهذا أمر جيد قد يكون في مصلحة الاقتصاد ، لأنه سوف يضطر الناس إلى الاعتماد على أنفسهم في العديد من الأنشطة الإنتاجية ، وهذا يقلل من تكاليف المعيشة ويزيد من النشاط الإنتاجي المحلي .. فمع انتشار الحجر الصحي ازدادت أهمية الاقتصاد المنزلي ورجع الناس إلى الخَبز والعَجن والخياطة وحتى الزراعة ولو لبضعة أمتار من الأرض .
ولعل أخطر الآثار الناجمة عن الحجر الصحي إذا ما استمر طويلا زيادة البطالة ، وأن يفقد ملايين الموظفين أعمالهم ، وهذا يعني انتشار الكساد على مستوى العالم ، وما يؤدي إليه من خسائر كارثية لكافة القطاعات الاقتصادية .. وتتوقع منظمة العمل الدولية أن يفقد أكثر من نصف العاملين في العالم أعمالهم إذا ما استمر هذا الوباء . وبالرغم من ضرورة ترشيد الوظائف العامة على مستوى دول العالم الثالث ، حيث لا تزيد إنتاجية الموظف العام عن 19 دقيقة يوميا في بعض الدول . إلا أن آثار البطالة لا يمكن مقارنتها بأعداد الوفيات التي يمكن وقوعها في حالة رفع الحجر الصحي .. فلا يمكن أن يموت الناس جوعا إذا فقدوا وظائفهم ، لكنهم سيموتون نتيجة المرض إذا ما رفع الحجر الصحي مع استمرار انتشار الكورونا .
ويقول بعض الباحثين بأنه من المتوقع حدوث تحولات اجتماعية كبيرة، بحيث تظهر أجيال الحجر الصحي، تعاني من نقص بعض الفيتامينات كفيتامين دال نتيجة قلة التعرض لأشعة الشمس .. كما أنه من المتوقع زيادة الأمراض النفسية والاجتماعية الناجمة عن زيادة القلق والعزلة ، وزيادة أمراض المفاصل والبدانة نتيجة قلة الحركة ، وإذا ما اشتد الحجر الصحي فمن المتوقع أن يزداد الناس أنانية وحرصا على ذواتهم ، وإذا حصل نقص في المواد الغذائية فلا يستبعد أن يلجأ الناس إلى الاعتداء على بعضهم للحصول على الطعام والشراب.
كل هذه الآثار الاجتماعية يمكن التعافي منها إذا ما أحسن الناس استغلال فترة الحجر الصحي في الابتكار والإبداع واكتشاف مواهبهم وميولهم ، وزيادة التماسك العائلي ، وشعور الناس ببعضهم البعض ، والتكافل الاجتماعي ، وكذلك الحرص على ممارسة الرياضة والتواصل الاجتماعي الإيجابي .
أما فتح أبواب الاقتصاد على مصاريعها دون وجود لقاحات أو علاجات ، فإن ذلك يعني الموت المحقق لملايين الناس الذين يعانون من أمراض مزمنة أو لديهم انخفاض في المناعة لأي سبب ، خاصة في ظل التهديدات التي تطلقها منظمة الصحة العالمية بوجود موجة ثانية أو ثالثة من الكورونا .
وبناء على ما تقدم فإن العمل بتطبيق الحجر الصحي هو الأفضل أو هو الخيار الأقل ضررا ، شريطة اتباع سياسة التدبير والترشيد للموارد الغذائية ، وشيوع التكافل والتراحم بين الناس ، والالتزام بتعليمات الحجر الصحي المشددة إلى أن يرتفع البلاء والوباء ، وتنكشف هذه الغمة عن البشرية جمعاء .