اقتصاد المقاهي والكافيهات أ.د كمال حطاب
في صيف 2010 دعيت إلى مؤتمر حول العولمة والقانون والشريعة في مدينة أكسفورد البريطانية ، وقد لفت انتباهي في تلك المدينة الوادعة تلك الكافيهات الممتدة في كل شارع ، المليئة بروادها المنهمكين بقراءة الكتب أو العاكفين على شاشات اللابتوب ، واللافت أكثر أن معظم تلك الكافيهات كانت تضم مكتبات ، بحيث يستطيع الجالس في الكافيه أن يقرأ ما يشاء . وكان منظر القراءة والاعتكاف على الكمبيوتر مع رائحة القهوة منظرا رائعا خلابا .
عندما أتذكر ذلك المؤتمر وتلك الكافيهات كنت أتساءل ، لماذا لا تكون الكافيهات في بلادنا العربية بهذا الشكل، القهوة مع الكتب مع البحث العلمي والاعتكاف على شاشات الكمبيوتر ..
وبالرغم من انتشار فروع تلك الكافيهات العالمية في الوقت الحاضر في معظم الدول العربية ، ونجاحها نجاحا كبيرا في جذب الجمهور والزبائن إليها ، إلا أن ثقافة القراءة لم تنتشر كما هي في الدول الغربية ..
حققت هذه الكافيهات في معظم الدول العربية نجاحا باهرا في إيجاد الزبائن الذين لا يستطيعون ممارسة حياتهم دون شرب القهوة من هذا الكافيه أو ذاك .. نجحت هذه الكافيهات من خلال التزامها بالكفاءة والمهنية وحسن الاستقبال وخلق بيئة بيتية للزبون ، بحيث يشعر الزبون وكأنه في بيته ، فلا يسأله أحد عن طلبه حتى يطلب، ولا يزعجه أحد بالسؤال أو التطفل عليه في أي شأن ..
لعل المكان الوحيد الذي تجد الناس فيه مصطفين في طوابير دون ضجر أو ملل هو هذه الكافيهات ، ولعل من أبرز عوامل نجاح هذه الكافيهات التزامها بمعايير مهنية محددة ثابتة لا تحيد عنها ، النظافة العالية ، حسن استقبال الزبون وتوديعه ، تقديم مذاقات ثابتة لا تتغير لكل شكل من أشكال القهوة المقدمة، الزبون دائما على حق ، الإخلاص والتفاني في العمل .. الهدوء .. الجلسات المريحة من خلال تنوع الكراسي والأرائك ..رائحة القهوة هي نفسها حيثما تجولت في مختلف مناطق العالم .
نجحت هذه الكافيهات رغم عدم وجود دخان أو أرجيلة أو مشروبات كحولية أو قمار أو غيره من الأنشطة الضارة بالإنسان والبيئة والمجتمع . نجحت في توفير أجواء مريحة هادئة بعيدة عن الضوضاء والضجيج والحياة الصاخبة .
إن معظم ما تتصف به هذه الكافيهات الأجنبية هو مقبول مهنيا وأخلاقيا ، بعكس المقاهي العربية التي لا تلتزم بأية معايير ، فمعظم المقاهي العربية الشعبية يتجمع فيها كبار السن حول ألعاب الورق أو النرد والتي قد لا تخلو من قمار ، ويتجمع فيها الشباب حول شاشات التلفاز لمتابعة المباريات أو غيرها من الأفلام ، وقد يتجمعون على بعض الألعاب الإلكترونية ، وتندر المقاهي العربية التي تخلو من الأرجيلة أو الدخان ، كما تندر المقاهي العربية التي تنتشر فيها الكتب أو قراءة الكتب ..
إن اقتصاد المقاهي والكافيهات هو اقتصاد أخلاقي بالدرجة الأولى يتناسب مع مستوى تقدم المجتمع أو تخلفه ، فبقدر ما يتقدم المجتمع ترتقي هذه الكافيهات بدورها في إتاحة المكان الهادئ الذي يساعد على التفكير والإبداع ، وبقدر ما يتخلف المجتمع تتدهور رسالة هذه الكافيهات إلى تضييع الوقت وإشباع الغرائز والشهوات.
إن الحلقة المفقودة في معظم هذه الكافيهات في معظم الدول العربية هو أن تحتوي على مكتبات أو أرفف للكتب الصادرة حديثا ، أو كتب الأدب العالمي .. إلخ ، ولا أظن هذه الكافيهات سوف تعترض إذا ما اشترط عليها الاحتفاظ بمكتبات دائمة بين جدرانها وأرائكها المتناثرة .