الخطر والمخاطرة في التمويل الإسلامي أ.د كمال حطاب
من بدهيات الشريعة أنها تهدف إلى التيسير على الناس ورفع الحرج ، ودفع الضرر والضرار ، وبالتالي فإن الخطر إذا كان بمعنى تعريض النفس للضرر والمال للخسارة فهو أمر لا يتفق مع المقاصد الشرعية ، ولكن الشريعة جعلت الغنم بالغرم ، والربح مربوطا بالتجارة والمخاطرة ، وكما هو سائد عند التجار ، الربح الوفير يترافق مع الخطر الكبير ، فهل تصح المخاطرة أو المجازفة أو تعريض المال للخطر مع الأخذ بكافة الوسائل الاحتياطية الضرورية .
مما لا شك فيه أن الخسارة ضرر ، وأن تلافي الخسارة والعمل على تجنبها أمر مطلوب شرعا ، حفظا للمال من الضياع ، غير أن طبيعة الأسواق تقوم على دفع الناس بعضهم ببعض ، كما تقوم على التعاون والمشاحة . ومن هنا فإن التعرض للمخاطرة هو أمر طبيعي يترافق مع انتقال السلع والأموال من مكان إلى آخر ، كما يترافق مع تقلبات الأسواق والظروف البيئية المحيطة بها .
غير أن المخاطرة أو التحوط في شراء الذهب أو النفط أو البتكوين أو غيرها من الأصول التي يزداد عليها الطلب العالمي في الوقت الحاضر ، محفوف بمخاطر شديدة لا يمكن لأحد أن يتنبأ بها .
إن أسعار العملات والعقود والمؤشرات والخيارات والمستقبليات في الأسواق العالمية محكومة بعوامل ومتغيرات لا يمكن توقعها أو السيطرة عليها ، فهي محكومة بسلوك المضاربين الكبار في العالم والذين يعتمدون على خبراء متخصصين في الرياضيات وفي الهندسة المالية ، من أجل محاولة حصر الاحتمالات المستقبلية لأي خطوة يخطونها في هذه الأسواق المظلمة .
إن سلوك المضاربين الكبار أو الحيتان بلغة البورصات هو الذي يحدد مسار الأسواق ، وهو يختلف عن سلوك معظم المتداولين في الأسواق ( الدببة ) والذين يتبعون الغرائز أو ينقادون وراء الأرباح السريعة .. فهل يمكن لعلم إدارة المخاطر التخفيف من حدة التقلبات التي تتعرض لها قيم الأموال والممتلكات للأفراد والمؤسسات ؟
إن علم إدارة المخاطر يبحث في محاولة تجنب الخطر أو نقله أو تأجيله أو تخفيفه إلى أدنى درجة ممكنة ، وهو يقوم على طرق وأدوات تتضمن قياس الخطر وتحديده ومن ثم تحجيمه من خلال مواجهته ، وقد وجدت تطورات عديدة في هذا العلم مثل معايير بازل ، ونظام كوزو ، ومقياس كاميلز ، وغيرها من المقاييس التي تساعد على تقييم الخطر وقياسه ومحاولة تجنبه أو نقله أو التخفيف من حدته .
ومما لا شك فيه أن علم إدارة المخاطر من منظور إسلامي سوف يكون أكثر ضبطا ودقة وقدرة على مواجهة المخاطر والابتعاد عنها ، لا سيما وأن معظم المخاطر التي تحيط بالأسواق المالية تنبع من التعامل بالمشتقات والمستقبليات والخيارات وتبادل العملات ، والعملات الافتراضية .. وهي في معظمها عمليات مقامرة لا يترتب عليها انتقال سلعة أو بضاعة أو زيادة انتاج ، كما لا يترتب عليها تسليم أو استلام وإنما تقوم على تصفية المراكز بشكل يومي بين الرابحين والخاسرين فهي عمليات مقامرة محرمة ، وبالتالي فإن ابتعاد المسلمين أو المؤسسات المالية الإسلامية عن هذه العمليات سوف يجنبها نصف المخاطر التي تتعرض لها الأسواق .
ومع ذلك فإن المستثمر المسلم أو المؤسسات المالية الإسلامية التي تحرص على الاستثمار الآمن ، ومحاولة تجنب الخطر أو التقليل منه بأكبر نسبة ممكنة تتطلب الإلمام بأدوات الكشف عن الخطر وقياسه ومحاولة تجنبه أو نقله أو التخفيف من حدته .
إن الأخذ بمعيار بازل تستفيد منه المؤسسات الإسلامية وغير الإسلامية ، وكذلك معيار كوزو للرقابة الداخلية الحصيفة ، وكذلك مقياس كاميلز لأهم الأدوات المتعلقة بالاستثمارات المالية .
غير أن ما يميز هذه المؤشرات أو المقاييس اعتمادها الكلي على سعر الفائدة ، نظرا لأنه المؤشر الأول لرأس المال على مستوى العالم ، وهذا ما لا ينسجم مع سلوك المؤسسات المالية الإسلامية المفترض أن يكون بعيدا كليا عن سعر الفائدة . غير أن عدم وجود سعر لرأس المال أو عائد حقيقي إسلامي لرأس المال يضطر المؤسسات المالية الإسلامية إلى التعامل مع ما هو شبيه أو بديل عن سعر الفائدة مثل الليبور وغيره .
إن الإسلام يحث على إنظار المعسرين ، ولكنه لا يسمح بجدولة الديون التي تقوم على زيادة الفائدة ، كما يحث على التصدق في حالة عدم القدرة على السداد .. وهو أمر اختياري ، وهو أقرب للتقوى ، كما أخبر الله عز وجل ..
وهذا المثال يشير إلى أن عملية قياس المخاطر وإدارتها والتعامل معها لا يمكن أن تبنى على عوامل مادية فقط كما هو في المؤسسات الربوية ، بل لا بد من وجود نسبة معينة للعوامل الأخلاقية والإنسانية ، التي تنشر في المجتمع روح التضامن والتكافل، دون أن تسمح بالتغافل أو التواكل ، فمطل الغني ظلم ، يحل عرضه وعقوبته ، ولا تصح الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي ، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم .
إن الأخذ بالعوامل المادية من مؤشرات ومقاييس لقياس الخطر ، هو أمر مطلوب قانونا وشرعا ، غير أن وجود نسبة للجوانب الإنسانية والروحية التكافلية هو أمر مطلوب شرعا ، وينبغي أن يكون مطلوبا في التشريعات والقوانين التي يسير عليها العمل المصرفي الإسلامي .