خواطر في الحج .. أ.د كمال حطاب
من القواعد الفقهية الشهيرة ، قاعدة : لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان ، وهي قاعدة تختص بالأحكام الفرعية الاجتهادية ولا تتعلق بالثوابت من الأحكام .. ولعل من الأمثلة الشهيرة على هذه القاعدة في العصر الحاضر ، مسألة نقل أضاحي مكة ، فقد كانت الفتوى على أن هذه الأضاحي محلها أهالي مكة ولا يجوز نقلها خارج الحرم ..
وقد كنا في مكة المكرمة في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي ، مع معظم الحجاج ، نصاب بالأمراض نتيجة تعفن معظم هذه الأضاحي بعد ذبحها ، وإلقائها على قارعة الطريق نظرا لعدم الحاجة إليها .. ونتيجة لهذه المفسدة العظيمة التي تخالف المقاصد الشرعية من الأضاحي والتي تتمثل بإطعام المحتاجين من سكان الحرم .. وجدنا الفقهاء يفتون بجواز إخراج الأضاحي خارج الحرم إلى فقراء المسلمين في جميع أنحاء العالم . وبالفعل كلف البنك الإسلامي للتنمية بإدارة مشروع الأضاحي ، وبدأت ملايين الأضحيات تصل إلى فقراء المسلمين في بنغلاديش ودول إفريقيا وغيرها من مناطق المسلمين .. ولم تتوقف الفتوى عند هذا الحد ، فصدرت فتاوى فيما بعد بجواز توكيل من يذبح هذه الأضاحي في الدول التي يكثر فيها فقراء المسلمين ..
وهكذا تم القضاء على مشكلة تعفن لحوم الأضاحي وعدم الاستفادة منها ، وتحققت مقاصد الحج بشكل أفضل من خلال مساعدة الفقراء والمحتاجين في مختلف دول العالم ..
وكذلك كان الحال في موت أعداد كبيرة من الحجاج سنويا نتيجة ضيق حدود منى ، ومناطق رمي الجمرات ، عندها تطورت الفتوى ، وسمح بتوسيع مناطق الجمرات ، فأمن الحجاج وتناقصت أعداد الوفيات التي كانت تحدث بسبب الزحام بل ربما انعدمت ، وهكذا تتحقق المقاصد الشرعية المستمدة من قوله تعالى ” وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ” ( الحج ، 78) .
إن التصلب أو التحجر على فهم واحد لبعض النصوص ، وإجبار الأمة على هذا الفهم رغم ما فيه من مشقة وحرج وضرر ، يخالف الأصول الشرعية التي جاءت بها النصوص الشرعية في معظمها ، كما يخالف المقاصد الشرعية التي تدعو إلى اليسر ودفع الحرج ، وهذا الفهم لا يتناسب مع روح الشريعة ومقاصدها السامية .
ولا يزال المسلمون يعانون حتى هذه اللحظات من مظاهر تنافي أصول الدين ومقاصد الشريعة من خلال التدافع والتزاحم والاختلاط في الطواف والسعي .. وهذه مظاهر لا شك أنها تخالف نصوصا شرعية قطعية، فليس التزاحم في مناسك الحج والعمرة ، وما يترتب عليه من ضرر ، مما أقرته الشريعة ، بل على العكس فإن ذلك أمر منهي عنه بقوله صلى الله عليه وسلم ” لا ضرر ولا ضرار ” وبالتالي ينبغي أن يجد المسلمون لأنفسهم ترتيبات وإجراءات إدارية ، تخفف من التزاحم والتدافع .
ويمكن أن يتم ذلك باستخدام بطاقات ممغنطة تحدد فترات للرجال وأخرى للنساء ، فيسمح بالدخول إلى الطواف لمن كان مأذونا له ، ويمكن أن يمنع من أدى الطواف من تكراره مرة أخرى ، ويمنع أهل مكة ممن اعتمروا أو حجوا مرارا من الحج أو العمرة في رمضان ، ويسمح بالطواف من خارج المطاف على عربات أو دراجات كهربائية ذات سرعة ثابتة ، وقد طاف النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكب على ناقة ، وأمر زوجته أم سلمة عندما اشتكت مرضا بقوله صلى الله عليه وسلم ” طوفي من وراء الناس وأنت راكبة ” ( أخرجه البخاري ومسلم ) .
وقياسا على ذلك يمكن اللجوء إلى كل الوسائل التي توفر الراحة خاصة لكبار السن أو المرضى أو ذوي الاحتياجات الخاصة .. ومن ذلك أن يتم تشييد أحزمة ناقلة كما في المطارات يتم الطواف والسعي من خلالها او تقام عربات تلفريك يتم من خلالها نقل الناس أثناء الطواف أو السعي ، على أن تكون بسرعة ثابتة توفر السكينة والطمأنينة ، وعلى أعلى درجات الأمان ..، وعندها يبقى الطواف والسعي ماشيا لمن كان قويا قادرا معافى لا يشكو من أي ضعف أو مرض .. وهكذا ..
إن الفتوى في هذه المسائل ضرورية ، وقد آن الأوان في الوقت الحاضر ، وبعد أن تهيأت الظروف التنظيمية والتكنولوجية لتطبيقها .. آن الآوان لإصدار فتاوى تنظم عملية الطواف بحيث لا يحدث الاختلاط والزحام بين الرجال والنساء ، ولا يلحقوا الضرر بأنفسهم أو ببعضهم بعضا ، ويتم الطواف بأريحية وهدوء وسكينة ، تليق بقداسة الكعبة والحرم الشريف .. تطبيقا لقوله تعالى ” فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ”(البقرة ، 197) ”