عودة إلى الصفحة الرئيسية

الاقتصاد العالمي مغامر أم مقامر ؟…… أ.د كمال حطاب

يبدو أن العالم الذي نعيش فيه أصبح غارقا في الوهم والخيال والفصام بشكل لم يسبق له مثيل ، فالمقامرون الكبار هم المسيطرون على حركة الأسواق ، وهؤلاء تحركهم شهية جني الأرباح نتيجة الهوامش وفوارق الهوامش ولا توجد متغيرات محددة تؤثر في شهيتهم سوى فرص حصد الأرباح .
يتحدث المحللون الماليون عبر القنوات الفضائية المختلفة عن أسعار العملات أو الذهب أو العملات الافتراضية أو أسعار النفط ، كما يتحدثون عن أخبار الحالة الجوية والأعاصير ، فيتحدثون عن بنك الاحتياطي الفدرالي الأمريكي وجيروم باول وقراراته وهل سيرفع سعر الفائدة وبكم نقطة ، ثم يتحدثون عن البنك المركزي الأوروبي وكريستين لاجارد ، ثم يتحدثون عن انهيار البتكوين وبقية العملات الافتراضية ، وحيتان المضاربين في هذه العملات ومصيرها ، والتحركات بين أسعار السندات وأسعار الفائدة .. إلخ
وهم في كل ذلك يعرضون الجداول والمنحنيات والتنبؤات المستقبلية التي تظهر أنهم يتحدثون علوما فنية دقيقة ، غير أن الواقع الذي يعيشه العالم في الوقت الحاضر ، أظهر أن هذه التحليلات المالية وكأنها أقرب إلى الخيال والخرافات ، أو تنتمي إلى علوم التنجيم أو علوم الشعوذة .
إن كبار الحيتان أو المضاربين هم الذين يحركون كل شيء ، وهؤلاء لا حد لجشعهم ، فحيثما وجدوا فرصة سريعة للربح انقضوا عليها ، وحيثما كانت الفوائد أكبر اتجهوا إليها ، وعندما تكون الأرباح المتحصلة عن طريق الذهب أكبر يتجهون إلى الذهب ، فإذا كانت عن طريق البتكوين والعملات الافتراضية أكبر اتجهوا إلى البتكوين وهكذا .. وهذا ما هو واقع في الوقت الحاضر .
إن أكثر من 90% من العقود المتداولة في الأسواق المالية لا يتم فيها انتقال سلع أو تسليمها ، وإنما هي تصفيات يومية لمراكز مالية ، وقد تكون ربحا أو خسارة ، فيسجل الربح في حساب العميل الرابح والخسارة من حساب العميل الخاسر .
إن العملية ببساطة هي مقامرات في مقامرات ، وتبقى الأموال محصورة في حسابات المقامرين ، وتحرم الشعوب وقطاعات الإنتاج من السيولة ، فيحدث الانكماش ويستمر الانكماش فيحدث الركود ويتعمق الركود فيحدث الكساد الاقتصادي .
طالعتنا الأخبار الاقتصادية أمس ، أن أصحاب المليارات في العالم خسروا قريبا من 78 مليار دولار بعد تصريح جيروم باول ، والذي استمر 8 دقائق ، وخسر بيزوس وحده قريبا من سبعة مليارات ، وماسك قريبا من ستة مليار دولار ، وبيل جيتس 2.2 مليار دولار وبافيت 2.7 مليار دولار .. إلخ .
هذه هي المقامرات بأوسع معانيها ، خسائر بالمليارات بسبب تصريح لمدة ثمان دقائق ، فأي اقتصاد عالمي نعيش فيه ، تصريح حول نية الفدرالي رفع سعر الفائدة بشكل متواصل من أجل السيطرة على التضخم ، فماذا لو استمر خطابه ساعة كاملة ؟ وما الذي كان سيحصل لو كان القرار رفع سعر الفائدة ، وليس نية رفع سعر الفائدة ، إنه اقتصاد مقامر وليس اقتصادا مغامرا ، كما وصفه توماس فريدمان الكاتب الأمريكي الشهير في أعقاب الأزمة المالية العالمية 2008 .
إن العالم الثالث ينظر بعيون شاخصة إلى هذه الخسائر ، ويراقب تهاوي أسعار الأسهم في الأسواق المالية ، وهو يئن من الفقر والبطالة وتراجع الرعاية الصحية والتعليمية ، وتساقط الضحايا في كل مكان نتيجة الحروب والكوارث والمجاعات وسوء التغذية .
إن البشرية بحاجة ماسة إلى التراحم والتكافل ، وليست بحاجة إلى سعر الفائدة الاستغلالي اللإنساني .. بحاجة إلى اقتصاد أخلاقي إنساني وليس اقتصادا استغلاليا وحشيا .
إن البشرية بحاجة إلى التشغيل والإعمار والإنتاج والتعاون على زيادة الخير والطيبات وليست بحاجة إلى الاحتكار والاكتناز وسعر الفائدة ..
إن البشرية بحاجة ماسة إلى اقتصاد حقيقي تشغيلي وليست بحاجة إلى اقتصاد مالي يتاجر في الوهم والأنشطة العقيمة .
إن البشرية بحاجة إلى أسهم أو صكوك تمثل موجودات حقيقية بقيم حقيقية ، وليس بحاجة إلى أسهم الخطيئة أو سندات الديون التي تمثل معظم الشركات المحرمات وشركات أسلحة الدمار والمقامرات والمراهنات والمتاجرة ب .
إن التحليل المالي يمكن أن يكون دقيقا ومنضبطا عندما يتعامل مع أرضية ثابتة ذات موجودات حقيقية ، وليس أرضية متحركة ذات موجودات اسمية مدونة في سجلات إلكترونية تمثل عقودا وهمية أو خيارات أو مستقبليات أو عقودا آجلة ، أو عمليات مقامرة على العملات أو النفط أو الغاز أو غيره مما يطرح في كل ساعة وفي كل لحظة على مواقع الإنترنت من أجل التداول ..

أكتب رداً:

You must be logged in to post a comment.

All Rights Reserved © www.KamalHattab.info  |  [email protected]