إعادة ضبط العولمة وسلاح المقاطعة أ.د كمال حطاب
إعادة ضبط العولمة وسلاح المقاطعة
أ.د كمال حطاب
منذ ظهر مصطلح العولمة في التسعينات من القرن الماضي ، والدعوات إلى ضبطها وتخفيف حدتها وتقليل توحشها لم تتوقف ، فها هو كلاوس شواب مؤسس منتدى دافوس يدعو في أكثر من اجتماع من منتديات دافوس إلى أنسنة العولمة أو العولمة المسؤولة .. بمعنى أن تكون قوى العولمة أو أصحاب الشركات العالمية الكبرى بما فيها المنظمات الدولية ، أكثر إنسانية ورحمة ورفقا بالآخرين وبالبيئة ، وبالكائنات الحية الموجودة على هذا الكوكب .
وكان جورج سوروس الملياردير العالمي الشهير، المتهم بإحداث أزمة نمور آسيا ، قد دعا إلى إصلاح النظام الرأسمالي في كتابه أزمة الرأسمالية العالمية ، بقوله لا بد ” أن نصحح وننظم قوى الأسواق المالية العالمية عن طريق عمل عالمي .. إن هناك حاجة ملحة بإعادة التفكير وإصلاح النظام الرأسمالي العالمي.. ”
وتبنى هذه الدعوة عدد كبير من المفكرين الغربيين ، خاصة في أعقاب الأزمة المالية العالمية 2008 .. مثل توماس فريدمان ، وفرانسيس فوكوياما ، وغيرهم ، ومع ذلك فإن العولمة قد ازدادت توحشا وهيمنة ، واتسعت الفجوة بشكل كبير بين الأغنياء والفقراء ، فزادت الحروب وأعداد الضحايا من القتلى والجرحى ، وازدهرت تجارة الأسلحة والعقاقير الطبية ..
غير أن الدعوة إلى إعادة ضبط العولمة في الوقت الحاضر ، ربما تجد لها مبررا ، خاصة في ظل انتشار فيروس الكورونا الذي ضرب كافة مرافق الاقتصاد العالمي وخاصة الشركات الكبرى وبالتالي فقد آن الأوان لهذه الشركات أن تعيد حساباتها وأن تحد من غلوائها وتوحشها ، آن الأوان لكي تكون أكثر إنسانية في زمن الوباء الذي لا يكاد ينجو منه أحد . ولكن هل ستستجيب قوى العولمة لمثل هذه الدعوات ؟
يبدو أن ذلك صعب جدا بل يكاد يكون مستحيلا ، فلا تزال قوى العولمة من شركات وأجهزة ومنظمات دولية تمارس إجراءات تعسفية ظالمة بحق الدول والشعوب الأكثر فقرا ، بل إن الدول القوية يمكن أن تمارس القرصنة على الدول الأقل منها قوة كما حدث من عمليات قرصنة واستيلاء بعض الدول على مستلزمات طبية كانت متجهة لدول أخرى غيرها ، وكما تحاول شركات كبرى للأدوية التسابق لإنتاج أو ترويج لقاحات ليست لها علاقة بالأمراض الموصوفة للوقاية منها .
بل إن أبشع العمليات الحربية لا تزال تشن على بعض الدول والشعوب فتقتل مئات الأبرياء بدعم من الدول الصناعية ، ومبيعات الأسلحة لم تتوقف عن دعم الأطراف المتحاربة .
أما من جهة المنظمات الدولية المنبثقة عن الأمم المتحدة كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير ومنظمة التجارة العالمية وغيرها من مؤسسات التمويل الدولية ، فمما لا شك فيه أن معيار تأسيس المنظمات الدولية كان هو معيار القوة ، فالدول الأكثر قوة والتي خرجت منتصرة من الحرب العالمية الثانية هي التي فرضت شروطها وحظيت ولا تزال بأعلى قوة تصويت في القرارات التي تصدر عن المنظمات الدولية كصندوق النقد الدولي وغيره من الأجهزة المنبثقة عن الأمم المتحدة .. فهل يمكن أن تتوافق الدول ومن خلال هذه المنظمات الدولية على معايير جديدة كالعدالة والشفافية والإنسانية أو احترام حقوق الإنسان ، والمحافظة على البيئة .. إلخ ؟ وما الذي سوف يحمي تطبيق هذه المعايير ؟ وهل يمكن أن تتنازل دول الفيتو عن هذا الحق مثلا ؟
يبدو جليا أن إيجاد مثل هذه المنظمات الدولية يعد ضربا من الخيال ، فما الذي سيدفع دول كبيرة قوية إلى التنازل عن مكانتها لمصلحة دول فقيرة ضعيفة ؟
يبدو أن الحل الوحيد الذي يمكن أن يخفف من غلواء العولمة وشركاتها ومنظماتها ، هو في التحالفات ، تحالف الدول الفقيرة ، تحالف الضعفاء يزيدهم قوة ، تحالف الدول الإسلامية ، ولكن كيف يتم ذلك ؟
إن هذا الحل يمكن أن يكون على مستوى الحكومات والشعوب ، فحكومات الدول الإسلامية يمكن أن تدخل في تحالفات بما يخفف عنها عبء استغلالها من قبل الدول المتقدمة ، ويمكن أن يتم ذلك من خلال إعادة تفعيل الاتفاقيات التكاملية بين الدول الإسلامية ، وإذا لم يكن ممكنا ، فيمكن البدء بتحالف دولتين أو ثلاثة أو أربعة أو على مستوى الدول الخليجية أو العربية ، أو على المستوى الجغرافي الآسيوي أو الإفريقي .. إلخ ، ومن خلال اتفاقيات اتحادات المدفوعات أو المقاصة ، وتجميع الاحتياطيات ، والتنسيق النقدي بكافة أشكاله .. إلخ .
ويبقى الدور الأكبر المنتظر هو دور الشعوب . فلا بد أن تقوم الشعوب بدورها ، والذي يمكن أن ينجح بقوة في إخضاع قوى العولمة للعدالة والنزاهة والأخلاق ، ولكن ما هو هذا الدور الذي يمكن أن تقوم به الشعوب ؟ وكيف يتم ذلك ؟ ، ببساطة، يتمثل هذا الدور في سلاح الصوم أو المقاطعة ، أو بمعنى آخر سلاح الصوم عن تلبية الاحتياجات من قبل أي شركة أو دولة تدعم الظلم والظالمين .. وقد نجح هذا السلاح في الماضي في تحقيق الاستقلال والسلام في الهند عندما قام به غاندي وأتباعه ، كما نجح في فترات عديدة عندما طبقه الماليزيون ضد بعض الشركات الأجنبية الظالمة ، كما نجح عندما طبقه المسلمون ضد الشركات الهولندية المؤيدة للإساءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكما سينجح في الوقت الحاضر بعد حملة مقاطعة منتجات الشركات الفرنسية التي ترضى بالإساءة لنبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم .
إن عدم اللجوء إلى هذا السلاح السلمي يعني أن قوى العولمة المتوحشة والمسيئة إلى البشرية ، ستبقى تمارس الطغيان والظلم والتغول على الشعوب ولن يقف في طريقها أحد من البشر .
إن إعادة ضبط العولمة تتطلب إعادة ضبط الشعوب لأوضاعها من خلال اختيار نمط استهلاكها بما يخدم مصالحها ويتفق مع قيمها ويدعم ويعزز كل معاني الخير والحق والرحمة والإنسانية . ولذلك كان قول الله تعالى ” إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ” (الرعد:11)