عودة إلى الصفحة الرئيسية

الاجتهاد الفقهي والاجتهاد الطبي أ.د كمال حطاب

كشفت جائحة الكورونا عن وجود خلل كبير في منهجية الاجتهاد الطبي ، مقارنة بمنهجية الاجتهاد الفقهي ، فمما لا شك فيه أن الاجتهاد الفقهي الإسلامي له منهجية محددة تعتمد الاستقراء وتحرير محل النزاع وحصر الظاهرة أو المسألة المراد بحثها ومن ثم استعراض آراء الفقهاء وأدلتهم ، وفحص الأدلة ومدى قوتها أو ضعفها وإمكانية قبول الاستدلال بها أو غير ذلك ، ومن ثم النظر في آراء الأولين إذا كانت المسألة قديمة أو لها مثيل في مسائل قديمة .. فإن لم يكن لها نظير في التاريخ ، يوازن بين الآراء والأدلة ومن ثم الوصول إلى الرأي الراجح بمسوغات ومبررات شرعية وعقلية وبما يحقق المصلحة المعتبرة شرعا والمتفقة مع المقاصد الشرعية العليا مع مراعاة الأولويات والمآلات .
إن الاجتهاد الفقهي الإسلامي قد وصل مراحل وآليات متقدمة في فقه الموازنات والأولويات والمآلات ، بحيث يستطيع الموازنة بين المصالح والمفاسد ، وترجيح وتقديم المصلحة على المفسدة وفق قواعد وآليات منضبطة .
كما وصل الاجتهاد الفقهي الإسلامي مراحل متقدمة في علم المقاصد ، والاجتهاد المقاصدي الذي يسعى جاهدا إلى الوصول إلى أحكام تحقق المقاصد الشرعية الكبرى الممثلة في حفظ حياة الناس وحقوقهم وأعراضهم ودينهم وأموالهم .. إلخ
أما الاجتهاد الطبي فلا نجد فيه مثل هذه المنهجية ، وقد رأينا ولا نزال نرى تخبط الجسم الطبي في كل مكان حول فيروس كورونا وطبيعته وانتشاره ومدى تحوره والسلالات الجديدة ، وكذلك حول اللقاح ومدى نجاعته وآثاره الجانبية ومدى خطورته وهل هو آمن للجميع .. إلخ .
ولا نكاد نجد مؤسسة أو هيئة طبية تخرج بقرار مبرر منطقيا أو عقليا أو طبيا ، ففي كل قرار تجد له عشرات بل ربما مئات المعارضين من الأطباء قبل غيرهم .. وبالرغم من مرور أكثر من عام ونصف على ظهور هذا الفيروس لا تزال الآراء الطبية في تضارب شديد ، ففي الأمس فقط خرج علينا وزير الصحة الأردني بأن أخذ جرعة ثالثة من أي لقاح إضافة للجرعتين السابقتين من لقاح آخر هو أمر شخصي يقدره كل شخص وفقا لمصلحته . بينما خرجت اليوم منظمة الصحة العالمية تحذر البشرية من خطورة الدمج بين اللقاحات .
إن هذا التخبط يشير بوضوح إلى عدم اتباع منهجية محددة للوصول إلى القرارات والنتائج في المجالس الطبية الرفيعة ولجان الأوبئة الدولية ومنظمة الصحة العالمية ، مما أدى إلى ضعف ثقة العالم بهذه الهيئات الطبية ، وتضارب مواقف الدول تجاه هذا الفيروس .
إن هذا التفاوت الكبير في الموقف من الفيروس ، ومن لقاحاته يشير إلى عوامل أخرى غير مهنية ، فبينما رأى العديد من الأطباء والهيئات الطبية المعتمدة دوليا أن اللقاحات آمنة ولا مشكلة فيها وأنها واقية من الفيروس ، يرى أطباء آخرون أن هذا الكلام ليس دقيقا وأن هذه اللقاحات لم تأخذ الوقت الكافي للتأكد منها وأنها يمكن أن تكون لها أعراض جانبية خطيرة ، ولعل لقاح جونسون أند جونسون من أكثر اللقاحات التي تعرضت للتحذير منه نتيجة الآثار الجانبية الخطيرة الناجمة عنه.
لماذا تسارع الحكومات بفرض اللقاحات إذا كانت الهيئات والمجالس الطبية غير متفقة على رأي علمي موحد . هل هي ضغوط الشركات ، أم ضغوط الإعلام العالمي ، والدعايات المرافقة ؟ ولماذا تتراجع بعض الحكومات عن بعض الإجراءات وتعتبر المسألة أمرا شخصيا ؟ ولماذا لم نجد للهيئات التشريعية أو المجالس النيابية أو لجان الفتوى رأيا واضحا محترما في هذا الموضوع .
من المؤكد أن معظم دول العالم طبقت توصيات أو وصفات منظمة الصحة العالمية كأعلى هيئة طبية عالمية ، غير أن سلوك هذه المنظمة كان مريبا منذ البداية ، عندما أخرت اعتبار الفيروس وباء حتى شهر آذار 2020 ، كان سلوكها مريبا عندما أوصت باعتبار اللقاحات ثم تراجعت عن بعض اللقاحات، وربما يكون للاعتبارات السياسية نصيب في قراراتها ، والدليل انسحاب الولايات المتحدة من المنظمة بسبب هذا السلوك المريب .
كان من المفروض مهنيا أن يثبت يقينا لدى الخبراء وممثلي المجالس الطبية بأن هذا اللقاح مفيد صحيا وأن عدم أخذه يسبب ضررا محققا ، أما متابعة الأجهزة الطبية الدولية والمجازفة بأعمار البشر دون اتفاق طبي أو دليل طبي قاطع فهذا مما لا ينبغي العمل به .
إن مئات ملايين البشر الذين أخذوا اللقاح ، تشكلت لديهم قناعة بأنه أخف ضررا من فيروس كورونا ، ولم تكن القناعة تامة بعدم وجود ضرر من هذا اللقاح حتى الآن .
وبناء على ذلك ينبغي أن تستفيد الجهات الفقهية الطبية من علوم الاجتهاد الفقهي في توصياتها الخاصة بالتعامل مع هذا الفيروس .
كما ينبغي على الهيئات التشريعية وجهات الفتوى الشرعية أن تعتمد رأي الهيئات الطبية المهنية المعتمدة ، وتحذر من الأخذ بآراء مريبة تمثل الشركات العالمية ، وقد تكون لمصالح اقتصادية أو سياسية .
ينبغي على جهات الفتوى أن تجتهد في تحري الهيئات الطبية المهنية المعتمدة ، وأن تصدر الفتاوى بعد قناعة تامة ، توضح وتفصل هذه المسألة باعتبار أن حفظ النفس على رأس الضروريات والمقاصد الشرعية العليا ، وأي تهديد للنفس فيه تهديد للحياة جميعا ، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ..

أكتب رداً:

You must be logged in to post a comment.

All Rights Reserved © www.KamalHattab.info  |  [email protected]