عودة إلى الصفحة الرئيسية

كبار السن في أمريكا أ.د كمال حطاب

كبار السن في أمريكا
أ.د كمال حطاب
من المظاهر التي يلاحظها الزائر لأمريكا ، شيوع ظاهرة عمل كبار السن ، وخاصة من السيدات ، فما من محل تجاري أو مولات أو كافيهات ، إلا وتجد العاملات أو الكاشيرات من فئة كبار السن من السيدات ، ممن أعمارهن تتجاوز الستين أو السبعين سنة .. وعند التدقيق في أدائهن لأعمالهن تجد أنهن يتمتعن بطاقة ونشاط ربما يفتقدها الكثير من الشباب .. بل إن الكثير من المطاعم تعتمد على هذه الفئة بشكل كبير .. أين الشباب ؟ ولماذا لا يقومون بهذه الأعمال ؟ هل التعويضات التي حصل عليها الناس أثناء الكوفيد19 ، جعلت الكثير من الشباب لا يعملون ، أو أن الشباب لا يرغبون بمثل هذه الأعمال ، ويؤثرون الأرباح السريعة من خلال التجارة الإلكترونية أو أن أجور هذه الأعمال ربما لا تكفي لبناء مستقبل لهم .. ولماذا لا تستريح هؤلاء السيدات في بيوتهن ؟ ألا يوجد لهن معيل ؟ أو راتب تقاعدي ؟
لا أدري ، ربما هو حرص من هذه الفئة على الاعتماد على نفسها في بيئة انخفض فيها مستوى التراحم وبر الوالدين ، وبات كبار السن أمام تحدي ” أكون أو لا أكون ” ، وربما هو استغلال من أصحاب العمل ، لأن هذه الفئة قد لا تحتاج إلى تأمين أو ضمان أو غير ذلك مما يتطلبه تشغيل الفئات العمرية الأقل ..وربما وربما ..
غير أن الملفت للنظر هو تمتع هذه الفئة في الغالب بحيوية ونشاط وقوة وروح رياضية عالية ربما لا تتوفر لكثير من شباب وشابات اليوم ..
زرت قبل أيام ، في الصباح الباكر ، أحد “الجيمّات” الرياضية ، فوجئت بوجود أكثر من أربعين سيدة ، معظمهن فوق السبعين ، يؤدين تمارين رياضية مشتركة مع إحدى المدربات ، فعرفت سر النشاط والقوة والطاقة البدنية ..
إن صلة الرحم وبر الوالدين في معظم المجتمعات الإسلامية أمر جميل ومطلوب وضروري وهو من أعلى القربات إلى الله ، ومن أهم مؤشرات الصحة النفسية والاجتماعية في المجتمع .. ولكن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال الإسهام في تدهور صحة كبار السن ، بمنعهم أو منعهن من المشي أو مزاولة أي شكل من أشكال التدريب أو الرياضة ..
كم يظلم كبار السن أنفسهم أو يظلمهم المجتمع عندما يحبسون أو يعزلون في غرف ، وتقدم لهم الخدمات الأساسية ، ولا يطلب منهم أو يسمح لهم بالحركة بحجة توفير الراحة التامة لهم .. إن الراحة لن تأتي إلا بعد تعب وصحة ونشاط .. أما عدم الحركة فهو مرض وليس براحة .. صحيح أنه لا ينبغي أن يقوموا بأعمال شاقة ، ولكن ذلك لا يعني عدم الحركة وعدم الانخراط بأي نشاط اجتماعي أو صحي ..
كم يُظلم كبار السن ، بسبب بعض التقاليد المغلوطة ” لما شاب أرسلوه على الكُتّاب ” ، هذا المثل يقف في وجه كل من يحاول أن يرتقي بنفسه علميا ونفسيا وثقافيا واجتماعيا ورياضيا وحتى اقتصاديا .
إن كبار السن هم بيت الخبرات والاستشارات والنصائح والدروس والعبر .. وبالتالي لا بد أن يحفظ لهم المجتمع مكانتهم ، ويعطيهم حقوقهم المادية والمعنوية ، ويشعرهم بأهميتهم بشكل مستمر من خلال الأنشطة الاجتماعية والثقافية والترويحية ..
إن الواقع يشير إلى أن رئيس أكبر دولة في العالم يقترب من الثمانين وكذلك الرئيس الذي قبله ، وكذلك رؤساء روسيا وغيرها من الدول الكبرى .. وحتى كبار أصحاب الثروات في العالم ، معظمهم من المعمرين .
قرأت في إحدى المجلات مقالا حول ” المعمرين ” ، وكان عنوانه ” the Centenarians ” ، يتحدث عن نسبة المعمرين في الولايات المتحدة وما يخصص لهم من موازنة ضخمة من أجل صحتهم والأنشطة الاجتماعية والترويحية التي يحصلون عليها . مما يضفي عليهم صحة وحيوية تمكنهم من العيش أعمارا مديدة.
ونفس الوضع في معظم الدول المتقدمة حيث تشكل تكاليف الرعاية لكبار السن من 15 – 25 في المئة من ميزانيات هذه الدول . وهي تكلفة اقتصادية كبيرة على هذه الدول ، ومع ذلك فهي مستمرة وفي ازدياد ، لأنها من أبسط حقوق كبار السن ، فكبار السن هم الذين أسسوا وعمروا وقدموا التضحيات ، فكيف لا يتم مكافأتهم ورعايتهم ، وكل أفراد المجتمع صائرون إلى هذا المصير، إذا طال عليهم العمر ، وبالتالي يطمئن كل فرد إلى مستقبله ، وينصرف إلى عمله ويؤدي واجبه بإخلاص وتفانٍ ، ولا يقلق على مستقبله إذا ما غدا كهلا مسنا لا يستطيع العناية بنفسه ، فقد وُجد نظام يعتني به ويؤمن له كافة مستلزماته .
إن كبار السن هم الأكثر أولوية بموازنات الحكومات في المجتمعات المسلمة ، فإذا لم تقم الحكومات بدورها عجزا أو عقوقا ، فينبغي أن تتكفل بذلك المؤسسات الوقفية والزكوية والإغاثية ، بحيث تكون المجتمعات المسلمة كالجسد الواحد الذي أخبر عنه نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم .
إن المجتمعات التي لا يُكفل فيها كبار السن ولا يُقدم لهم الرعاية والعناية هي مجتمعات ظالمة فاشلة . لا خير فيها لكبارها ولا لصغارها .

أكتب رداً:

You must be logged in to post a comment.

All Rights Reserved © www.KamalHattab.info  |  [email protected]