ثقافة القراءة في أمريكا أ.د كمال توفيق حطاب
ثق
كنا في زيارة عائلية إلى إحدى المكتبات العامة في ضواحي مدينة بوسطن ، فوجئت بحفاوة الاستقبال من قبل موظفي المكتبة وبلهفة الأطفال على الكتب وعلى مرافق المكتبة وتعلقهم الشديد بالقصص ، وتساءلت هل هي ظاهرة عامة أم هي حالة خاصة لدى أطفالنا فقط ، فوجدت أنها حالة عامة ، حيث توجد حصص للمكتبة في المدارس الابتدائية ، يزور فيها الطلبة مكتبة المدرسة ، ويتعرفون على الكتب ، ويتم إرشاد كل طالب في كل حصة ، إلى استعارة كتاب يلبي ميوله ويجد لديه رغبة في استعارته ، ومن هنا تبدأ العلاقة بالكتاب .
وفي زيارة أخرى إلى مكتبة بارنز ونوبل الشهيرة ، والتي تنتشر فروعها في معظم مناطق أمريكا ، وجدت إقبالا وازدحاما على شراء الكتب ، وعلى تصفح الكتب ، وقوفا أو جلوسا في أحدى زوايا المكتبة ، حيث يوجد كافيه ، يجلس فيه كثيرون يتصفحون الكتب والمجلات دون اعتراض من أحد، ولم أعثر على كتاب أو مجلة مغلفة بحيث يمنع الاطلاع عليها ، ولا موظفين يحذرون القارئ من القراءة ، كما هو الحال في كثير من بلادنا العربية ، جلسنا عدة ساعات تعرفنا على كتب كثيرة لم نسمع بها من قبل ، وبالرغم من وجود كورونا وإغلاق أكثر من 400 فرعا لهذه المكتبة إلا أنها لا تزال تعمل كما كانت من قبل .
من الملاحظات على مرتادي المكتبة أن معظمهم من كبار السن ، وقلة هي من فئة الشباب ، ولا أدري هل هي مصادفة أم أن المجتمع أصبح هرما أو كثيف الشيخوخة .. ومما يلاحظ أيضا أن مباني المكتبات سواء العامة أو الخاصة مبان فخمة أنيقة ، واسعة جدا ، يشعر الزائر فيها براحة كبيرة ، ولا يعاني من أي نظرة فضولية أو عوائق نظامية أو نفسية .
من الملاحظات هنا أن الناس أصبحوا مدمني قراءة ، وبالرغم من وسائل التواصل الاجتماعي وانتشار الهواتف المحمولة ، فإن عادة القراءة لا تزال متأصلة في هذا المجتمع ، ولعلها من أسباب استمرار قوة المجتمع علميا وتكنولوجيا .. وقد لاحظت أثناء زيارتنا لبعض حدائق الأطفال ، وجود أكواخ صغيرة ، أشبه بصناديق البريد ، تحتوي على كتب لمرتادي الحديقة للمطالعة ، كما توجد مثل هذه الصناديق على أبواب بعض البيوت لمن يريد أن يقرأ أو يستعير أو يتبرع بكتاب .
لا أدري إذا كانت أوضاع أمة ” أقرأ ” قد تحسنت أم أنها لا تزال كما عهدناها منذ زمن طويل .. أذكر أنني حاولت استعارة كتاب عندما كنت في المدرسة الإعدادية ، فقال لي أمين المكتبة إن هذا الكتاب كبير عليك ولن تستطيع أن تفهمه ، ومع ذلك سمح لي باستعارته ، وكان من أوائل الكتب التي قرأتها وفهمتها ولخصتها وكان بعنوان ” المسلمون والعلم الحديث ” ، وقد بدأت عادة قراءة الكتب وتلخيصها منذ ذلك الوقت ، ومعظم الكتب التي لخصتها لا أزال أذكر كثيرا مما ورد فيها .
وفي الثانوية ، اعتدت بعد مغادرة المدرسة أن أمر في طريقي علي مكتبة بلدية الزرقاء وكانت في سوق احياد التجاري ، فأتصفح بعض الكتب والمجلات والصحف ، وكانت المكتبة عبارة عن شقة في الدور الأول ، ولا أدري ما حالها الآن وكيف أصبحت .
أظن حالي كانت حال كثير من الطلبة ، حيث كنا نستعير الكتب ونقرؤها ، ونتناقش في محتواها ، ونوصي بعضنا بعضا حول بعض الكتب .. ولا أدري هل لدى الطلبة في هذه الأيام مثل هذه الاهتمامات ، أم أن الهواتف المحمولة والألعاب الإلكترونية وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي قد احتلت الجزء الأكبر من الحياة اليومية المعاصرة ..
مما لا شك فيه أن وسائل التواصل الاجتماعي قد احتلت الجزء الأكبر من حياتنا جميعا كبارا وصغارا ، غير أن تنمية عادة القراءة من الصغر ، تجعل وسائل التواصل الاجتماعي أقل تأثيرا ، كما أن وجود مرافق مكتبية واسعة مريحة وموارد بشرية أكثر تأهيلا ، سوف يزيد من إقبال الناس على المكتبات ، والتعلق بالكتاب ، وتنمية عادة القراءة ..
ومما لا شك فيه أيضا أن المسؤولية في إيجاد البنية التحتية لثقافة القراءة تقع على الحكومات بوزاراتها المختصة ، غير أن مساهمة القطاع الخاص ، وقطاع دور النشر والمكتبات التجارية الكبرى ، سوف يزيد من تحقيق هذا الهدف ، ويعمل على تسريع نمو ثقافة القراءة ، بما يقلل كثيرا من أثر وسائل التواصل الاجتماعي .
إن الأمة التي نزل فيها القرآن ، وبدأ نزوله بكلمة ” إقرأ ” ، وتحدث عن القراءة وحث عليها في أكثر من ستة عشر موضعا ، لهي جديرة بأن تعلم العالم ثقافة القراءة ، وأن تقود العالم في طريق العلم والحضارة ، وقد فعلت ذلك سابقا ، ويمكن أن تفعل ذلك لاحقا .