مشروعية المقاومة أ.د كمال حطاب
مما لا شك فيه أن معظم البشر على اختلاف عقولهم ومواهبهم ومواقعهم ، يحلمون بالعيش في مجتمعات آمنة مطمئنة ، يأتيها رزقها رغدا من كل مكان ، ومما لا شك فيه أيضا أن مثل هذه المجتمعات سوف تزدهر وتتقدم بشكل سريع إذا تحقق الأمن والسلام .
غير أن استقراء أحوال البشر عبر التاريخ يوضح أن المجتمعات الآمنة لا يمكن أن تبقى آمنة ما لم تكن قوية تستطيع الدفاع عن نفسها ، وفي غزو أوكرانيا في الوقت الحاضر درس وعبرة لكل الشعوب والدول التي تريد أن تصنع سلاما أو تقيم اتفاقيات سلام .
إن المقاومة حق طبيعي وفطري وإنساني ، نصت عليه الشرائع والمواثيق الدولية ، جاء في ميثاق الأمم المتحدة، في مادته (21 ) ما نصه ” ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول والشعوب، أفراداً أو جماعات، في الدفاع عن نفسها إذا اعتدت عليها قوة مسلحة”.
وقبل ميثاق الأمم المتحدة بأربعة عشر قرنا ، جاء النص القرآني واضحا في قوله تعالى في سورة البقرة ” فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194).
غير أن الشرعية الدولية التي تكيل بمكاييل متعددة تتعاطف حاليا مع المقاومة في أوكرانيا ، وتدعم أوكرانيا بكل أشكال الدعم ، من مال وسلاح وإعلام .. إلخ ، وهو أمر محمود ، لأن نصرة المظلوم من الأمور الفطرية الإنسانية التي حثت عليها كافة الشرائع ، ولكن هذه الشرعية نفسها تعتبر ذلك محرما بحق الشعب الفلسطيني وغيره من الشعوب التي لا تزال ترزح تحت الاحتلال .
إن المقاومة تفرض حصانة وحماية للمجتمع ، بما يؤدي إلى أن يعيش الناس في أمن وسلام ، واستقرار وازدهار ، أما بدون مقاومة فإن هذا المجتمع سوف يكون مستباحا لكل طامع ، ومغنما لكل ظالم ، وبالتالي فلا استقرار ولا ازدهار ولا أمن أو سلام .
إن المقاومة هي السلاح الشرعي الذي تقره كافة الشرائع السماوية والمواثيق الدولية ، من أجل تحقيق الاستقرار والازدهار والتقدم ، والتعايش السلمي مع كافة الشعوب الحية الحرة التي تسعى إلى إحقاق الحق ورفع الظلم والعيش بسلام .
مارست الشعوب المحتلة في كافة البلدان وعلى مدار التاريخ حقها في المقاومة ، وخرجت الشعوب المتحررة بعد طرد الاحتلال أكثر قوة وأكثر حرية وإبداعا ، وتفوقت هذه الشعوب بعد الحرية في العلوم والتكنولوجيا والاقتصاد ، حتى بلغت في الاقتصاد والتقدم والرفاهية مبلغا عظيما .
فها هي أمريكا لم تتمكن من السير في طريق الازدهار والتقدم إلا بعد أن تحررت من الاحتلال الإنجليزي ، حيث يحتفل الأمريكيون في الرابع من تموز من كل عام بعيد الاستقلال ، وهكذا معظم دول العالم التي احتلت أراضيها ، لم تحقق التقدم الاقتصادي إلا بعد أن نالت حريتها وانطلقت دون قيود ..
إن السلام والازدهار والتقدم والنمو الاقتصادي لا يمكن أن يتحقق في ظل الظلم والاضطهاد والاستغلال والتعدي على حقوق الناس ، وإن السلاح الوحيد الذي يمكن أن يضمن تحقيق السلام والاستقرار هو سلاح المقاومة .
إن حالة أوكرانيا في الوقت الحاضر وتعاطف المجتمع الدولي معها تمثل فرصة عظيمة للشعوب المحتلة لكي تدافع عن نفسها ، وترفع شعار المقاومة الشرعية التي يعترف بها المجتمع الدولي في أوكرانيا، وهي فرصة عظيمة لرفع الحصار عن قطاع غزة وعن الضفة الغربية ، وعن القدس والمسجد الأقصى ، وعن فلسطين المحتلة من النهر إلى البحر ، خاصة في ظل تغير مواقف كثير من دول العالم تجاه ما يجري في الأراضي المحتلة ، وتغير الكثير من مواقف الصحفيين مثل مذيعة سي إن إن في لقائها مع رئيس وزراء دولة الاحتلال ..تجاه القضية الفلسطينية .
لقد آن الأوان لدبلوماسية المقاومة أن تتحرك من أجل استثمار هذه التغيرات في المواقف الدولية ، ومطالبة المجتمع الدولي والشرعية الدولية بمواقف أكثر عدالة وإنصافا للقضية الفلسطينية ، لأنها إن لم تفعل ذلك ، فسوف تفقد مصداقيتها عالميا ، وسوف تعمل الشعوب المحتلة على الدفاع عن نفسها ، واسترجاع حقوقها بعيدا عن الشرعية الدولية المتحيزة ذات المكاييل المتعددة .