أوروبا بين البرد والظلام أ.د كمال حطاب
قبل عدة سنوات كنت عائدا من لندن إلى الكويت على متن الخطوط البريطانية بعد حضور أحد المؤتمرات، وكانت الرحلة بعد منتصف الليل ، ولما كنت لا أستطيع النوم في الطائرة وكان مقعدى على نافذة الطائرة ، فقد أمضيت تلك الليلة أراقب خارطة الرحلة على الشاشة ، وما يماثلها من دول وأماكن على الأرض .. وكان المنظر بديعا عجيبا ، كانت معظم دول أوروبا التي مررنا فوقها مضاءة بأنوار ساطعة متلألئة ، وكانت الخيالات والتصورات تزدحم في رأسي ، كانت الطائرة تسير بسرعة فوق الألف كيلومتر في الساعة ، ومع ذلك لا نشعر بأي اهتزاز ، ومعظم ركاب الطائرة يغطون في نوم عميق ، وأنا أفكر في سر هذه الإضاءة الساطعة فوق دول أوروبا ، وهل هي رفاهية زائدة ، أو زيادة الاستهلاك والترف ، أم أن هذه الإضاءة هي سر التقدم والتنمية .. ، تذكرت أن من خصائص الدولة المتقدمة زيادة نسبة استهلاك الكهرباء .. فلما صارت الطائرة فوق تركيا ، لاحظت أن الجزء الأكبر من مساحة تركيا مضاءة ولكنها ليست كإضاءة أوروبا ، فلما مرت الطائرة فوق العراق لاحظت الظلام الدامس ، إلا من نار مشتعلة تظهر من بعيد بين الفينة والأخرى ، يبدو أنها نيران بعض مصافي النفط ، وتساءلت كيف لرابع أو خامس دولة في العالم من حيث احتياطي النفط أن تعيش في ظلام ؟ فقلت ربما هو الاحتلال الأمريكي أو ثمرات الديمقراطية الجديدة في العراق!! وصلنا إلى الكويت مع بزوغ الفجر ، وكانت الإضاءة الساطعة في سماء الكويت تكاد تختفي مع تباشير الفجر .
تذكرت هذه الرحلة اليوم ، وعرفت أن سر تلك الإضاءة الساطعة كان الغاز الروسي ، فبعد انقطاع الغاز الروسي أصبحت أوروبا مهددة بشتاء قارس وظلام دامس .. بعد توقف معظم المولدات الكهربائية والمحطات النووية عن العمل .. واتجاه معظم قادة أوروبا إلى دول النفط وإلى إفريقيا من أجل تأمين الغاز اللازم للإنارة والتدفئة وتشغيل المولدات والآلات الصناعية وأجهزة الكمبيوتر والرادارات والمطارات .. بمعنى آخر إعادة الحياة إلى أوروبا ..
ويبدو أن الطاقة الخضراء والطواحين والألواح الشمسية لا تزال محدودة جدا في أثرها وانتشارها رغم اتفاقية باريس وغيرها من الاتفاقيات التي تدعو إلى الحد من الغازات المنبعثة المدمرة للبيئة ..
يبدو أن خبراء التنمية لم يكونوا مخطئين عندما جعلوا نسبة استهلاك الكهرباء من أهم مؤشرات التنمية إضافة إلى درجة التعقيد الصناعي ومعدل دخل الفرد ، ومعدل الإنفاق على الرعاية الصحية والعلمية ، ومتوسط العمر المتوقع عند الولادة ..إلخ ..
ويبدو أنه يوجد خيط رفيع جدا بين التنمية والتخلف .. فالكهرباء وحدها كفيلة بعودة البشرية إلى العصور المظلمة في حالة انعدامها.. وعندها فسوف تفقد البشرية أكثر من 90% من إنتاجها الحضاري المادي ..
غير أن من أهم خصائص الدول المتخلفة التي كنا ندرُسها ونُدرّسها في موضوع التنمية ، اعتماد الدولة على سلعة واحدة ، كالنفط ، حتى ولو كانت من أهم الدول المصدرة للنفط ، فإن اعتماد أي دولة على سلعة واحدة فقط يدرجها ضمن الدول المتخلفة ، فلماذا صنفت دول أوروبا ضمن الدول المتقدمة ، واقتصادها قائم في معظمه على مادة خام واحدة .. هي الغاز ، إضافة إلى أن هذه السلعة مستوردة وليست منتجة محليا ؟
يبدو أن تقدم دول أوروبا كان نتيجة اتفاقات الإذعان التي وقعتها مع الدول المستعمَرة التي كانت خاضعة لها ، والتي تسمح لدول أوروبا بمصادرة الاحتياطيات واستغلال ونهب الثروات من الدول المستعمَرة ، ومن جهة أخرى فإن اتفاق دول أوروبا على إقامة السوق الأوروبية المشتركة ، والاتحاد الأوروبي وإصدار عملة واحدة هي اليورو ، كان هو العامل الأبرز في تقدمها ، وهي نفس الخطوات التي بنت أمريكا قوتها عليها ، فقد كانت الحرب تعصف بالولايات الأمريكية شمالا وجنوبا وشرقا وغربا ، ولم يصبح لها اسم أو كيان إلا بعد الوحدة وظهور الولايات المتحدة الأمريكية ..
ولعل مما لا يختلف عليه اثنان ، أن من أهم أسباب تخلف الأمة العربية والإسلامية هو الانقسام والتفكك وغياب أي مظهر من مظاهر الوحدة والتكامل الحقيقي بين هذه الدول .. فمتى تعي هذه الدول أن سر قوتها يكمن في وحدتها ، وأن تخلصها من التبعية الاقتصادية والسياسية للدول الغربية يتحقق من خلال وحدتها وتكاملها مع بعضها .. وأن الدين هو العامل الأول الذي يمكن أن يزيل كافة الحواجز التي تمنع من الوحدة وتحول دون التكامل والتضامن والاتحاد ..
إن الأمة العربية والإسلامية لا ينقصها غاز أو بترول ، حيث تعتبر الأولى على العالم في احتياطيات النفط والغاز ، ولكن الذي ينقصها الإرادة والعزيمة من أجل الاتحاد وتحقيق التكامل والتمسك بثوابتها ودينها قال تعالى ” إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ” ( الأنبياء ، 92) ..