هل صندوق النقد الدولي بريء في حالة الأردن ؟؟ أ.د كمال حطاب
في الثمانينات من القرن الماضي ، وفي مرحلة الماجستير بالتحديد ، درسنا كتاب محمد زكي شافعي مقدمة في العلاقات الاقتصادية الدولية وكتاب المنظمات الدولية لحسين عمر وغيرها من الكتب في مادة الاقتصاد الدولي والمنظمات الدولية ، وقد كان من أكثر ما يلفت النظر ويثير الدارسين موضوع صندوق النقد الدولي ، وقد أثارني هذا الصندوق بشكل خاص عندما أعددت رسالتي للماجستير حول التكامل النقدي الإسلامي ، وتعرفت على دور الصندوق الحقيقي في زيادة إفقار الدول الفقيرة وزيادة غنى الدول الغنية ..
وقد كنت كتبت مقالا عام 2003 بعنوان ” مطالبنا من صندوق النقد ” نُشر على موقع إسلام أون لاين في ذلك الوقت ، وهو موجود على موقع موسوعة الاقتصاد والتمويل الإسلامي https://iefpedia.com/arab/?p=633 وضحت فيه طبيعة الشروط التي يضعها صندوق النقد الدولي على الدول النامية من أجل ضمان قروض الأغنياء والتي تشمل رفع الدعم عن السلع الأساسية وتخفيض الإنفاق الحكومي والخصخصة .. إلخ .
غير أن ما يلفت النظر في حالة الأردن ، ومن خلال قراءة ما ورد في المراجعة الخامسة على موقع الممثل المقيم لصندوق النقد الدولي في الأردن ، أن التوصية برفع الدعم عن أسعار المحروقات ترافقت مع التوصية بدفع بدل نقدي لمحدودي الدخل ولمن لا يستطيع تحمل الأسعار الجديدة ؟ فلماذا لم تقم الحكومة الأردنية بتطبيق توصيات الصندوق كاملة ؟ وهل يمكن اعتبار الصندوق بريئا في هذه الحالة ؟ أم أن هذه المراجعات والتوصيات ليست هي القرارات التي تعتمدها إدارة الصندوق في واشنطن ؟
يبدو أن الاحتمال الثاني هو الأرجح ، فالصندوق كما كان يقول رئيسه الأسبق دومينيك ستراوس ، هو أشبه برجل المطافئ لا يهمه من أشعل النار بقدر ما يهمه إطفاؤها ، ثم لا علاقة له بالأمر .. فالمهم عند الصندوق هو حماية أموال الدائنين من مؤسسات وبنوك ودول صناعية .. ولذلك يجب المحافظة على قدرة المدينين على السداد ..من خلال ما يسمى معالجة العجز المؤقت في موازين المدفوعات .. رغم أن معظم الدول المدينة تعاني من عجز هيكلي في موازين المدفوعات ، ومع ذلك فما دام لدى هذه الدول موارد يمكن الوصول إليها ، فتبقى دولا صالحة للاقراض غير الأخلاقي الذي تترتب عليه فوائد مضاعفة أضعافا كثيرة .
وبالعودة إلى موقع صندوق النقد الدولي وحالة الأردن ، فقد جاء في المراجعة الخامسة في 15 نوفمبر 2022 ” من المتوقع أن تقلص الحكومة المركزية عجزها الأساسي … في عام 2022 ، مع تعويض تكاليف دعم الوقود والغذاء الأكبر من المتوقع من خلال ترشيد الإنفاق غير ذي الأولوية و زيادة كبيرة في أداء الإيرادات. يعكس هذا الأخير جهود الحكومة المؤسسية والتشريعية المستمرة لمعالجة التهرب الضريبي وتجنبها… إن الإلغاء التدريجي للدعم غير المستهدف لأسعار الوقود ، مع حماية المستضعفين من ارتفاع الأسعار من خلال التحويلات النقدية الإضافية ، أمر مرحب به ، لأنه يوفر الموارد الثمينة للإنفاق ذي الأولوية.”
فأين التعويض الأكبر من المتوقع لتكاليف دعم الوقود والغذاء .. وأين ترشيد الإنفاق غير ذي الأولوية وهل وجدت إصلاحات لمعالجة التهرب الضريبي ؟ إين حماية المستضعفين من ارتفاع الأسعار وأين التحويلات النقدية الإضافية ؟ أين الإلغاء التدريجي للدعم غير المستهدف لأسعار الوقود؟ حيث تشير الدراسات إلى أن 9 من كل 10 دولار من الدعم تذهب للأغنياء .. فلماذا لم تطبق هذه التوصيات ؟
يبدو أن جميع التوصيات لم تطبق أو طبقت بشكل طفيف جدا ، والأمر الوحيد الذي لا شك في حدوثه هو ارتفاع أسعار المحروقات بشكل كبير يفوق قدرة المواطن العادي على تحمل تكاليف الحياة .. مما زاد من معاناة سائقي شاحنات النقل والتاكسي وغيرهم ، وألجأهم إلى الإضراب وبالتالي حدوث القلاقل والاضطرابات الاجتماعية والسياسية ..
إن صندوق النقد الدولي في مراجعاته بريء نظريا من إحداث القلاقل السياسية والاجتماعية ، ولكنه ومن خلال ضغوطه على سداد الديون وفوائد الديون المتراكمة والمتضاعفة ضالع في إحداث المشكلات والتوترات والأزمات الاقتصادية والاجتماعية في معظم الدول التي تطبق برامج الإصلاح الاقتصادي .
خضعت 77 دولة لبرنامج الإصلاح الاقتصادي للصندوق منها 33 دولة إسلامية ، خرجت معظمها بعد تطبيق البرنامج أكثر فقرا ومديونية واختلالا وتشوها اقتصاديا واجتماعيا .. ولم تنجح في مواجهة الصندوق سوى دول قليلة جدا كان من أبرزها ماليزيا في التسعينات من القرن الماضي ، عندما اتخذ مهاتير محمد إجراءات معاكسة لشروط الصندوق ، وركز على محاربة الفساد ووضع إجراءات صارمة لمنع إخراج العملات الصعبة ، بما أدى في النهاية إلى أن يعترف صندوق النقد الدولي بأن إجراءات ماليزيا كانت أصح من شروط ووصايا الصندوق.
إن قيام الحكومة الأردنية بتخفيض أسعار المحروقات 75 فلسا هي خطوة في الاتجاه الصحيح ، ولكنها ليست كافية ، ولا بد من تطبيق ما ورد في التوصيات أو النصائج التي وردت في المراجعة الخامسة ، وأهمها الإلغاء التدريجي للدعم غير المستهدف لأسعار الوقود ، مع حماية المستضعفين من ارتفاع الأسعار من خلال التحويلات النقدية الإضافية .