علماؤنا بين التشريف والتشهير .. أ.د كمال حطاب
ضجت وسائل التواصل الاجتماعي قبل أيام بخبر وفاة العالم الجليل أستاذنا الدكتور محمد نعيم ياسين رحمه الله وأدخله فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .. وكثرت المقالات والخطابات والمدائح والأشعار في ذكر سيرته الطيبة ومواقفة الثابتة وعطائه ومؤلفاته وما تركه من آثار علمية وفكرية ومبادئ تربوية وسيرة عطرة في نفوس كل من عرفه من زملائه وطلابه ومحبيه ..
لقد كان الشيخ رحمه الله فريدا بشخصيته الأبوية الحانية ،وبروحه الأخوية المتواضعة ، كما هو فريد بمواقفه العلمية القوية ، ومبادئه الثابتة .. وأذكر فيما يلي بعض هذه المواقف ، من باب الأسوة والاقتداء ، وكذلك للدرس والعبرة ..
شاركت مع الشيخ رحمه الله مناقشة رسالة دكتوراه في الجامعة الأردنية ، وكان رئيس اللجنة أو المشرف يرى أن يعطي لكل عضو من أعضاء اللجنة مدة نصف ساعة لكي يبين ملاحظاته ، فقال له الشيخ رحمه الله أنا قرأت هذه الرسالة ولدي ملاحظات ربما تستغرق ساعتين أو أكثر ، فإن شئتم أعطيتموني الفرصة للمناقشة وإلا دعوني أنسحب فلا حاجة لكم بي .. وما كان من رئيس اللجنة وأعضائها إلا أن قبلوا بشرط الشيخ وكانت ملاحظات دقيقة استفاد منها الطالب كما استفاد أعضاء اللجنة جميعا .. وهو موقف يؤكد حرص الشيخ الشديد على العلم والعلماء وعلى التدقيق والتصحيح إلى أفضل درجة ممكنة .
وفي مجال البنوك الإسلامية ، فقد أخبرني رحمه الله بأنه كان أحد أعضاء اللجنة الشرعية لأحد البنوك الإسلامية ، ولما وجدهم لا يستمعون لملاحظاته ومحاولاته لتصحيح الأخطاء والمخالفات انسحب من اللجنة وقدم استقالته من تلك اللجنة وأعاد أو تبرع بما صرفوه له من مكافآت ..
كما رافقت الشيخ رحمه الله في عدد من المؤتمرات، وفي كل مؤتمر كنت أراه ممسكا دفترا مليئا بالملاحظات، فلما سألته عن ذلك قال بأنه لا يترك بحثا دون قراءة وتدقيق، ولديه ملاحظات وتعقيبات وتصحيحات لمعظم البحوث المشاركة، وهذه همة عالية وحرص شديد قلما يوجد عند غيره.
إن ما ذكر بحق الشيخ رحمه الله قليل جدا عند كل من عرفه ، فهو يستحق التكريم والتشريف والإشادة عن جدارة في حياته قبل مماته ، كان يستحق أن يكون له مكتب دائم في الجامعة وكرسي دائم باسمه أو جائزة باسمه ، غير أنه العقوق المنتشر في هذا الزمان ، عقوق الوالدين ، وعقوق الأرحام ، وعقوق العلم والعلماء..
إن مكانة العلماء في مجتمعاتنا العربية والإسلامية لا تتناسب مع المكانة والمنزلة التي أرادها الله عز وجل عندما قال ” إنما يخشى الله من عباده العلماء ” ولا تنسجم مع وصايا النبي صلى الله عليه وسلم حول مكانة العلم ومكانة العلماء ، خاصة في هذا الزمان الذي أصبح فيه علماء الإسلام محل تشهير ونقد وتجريح مهما كانوا معتدلين أو وسطيين ، وأصبحت التهم جاهزة معلبة أمام أي رأي يصدر من عالم ، اتهام بالرجعية والتطرف وربما الإرهاب ، واتهام بالأخونة والسلفية والجهادية والصوفية والكلامية … إلخ كل هذه الألقاب أصبحت تهما جاهزة تلصق بأي عالم أو دارس للشريعة ، إذا ما قال قولا ينكر فيه ممارسات القوم وما اعتادوا عليه من منكرات وما ألفوه من سلوكيات تخالف صحيح الدين بل تخالف الفطرة التي فطر الله الناس عليها ..
إننا في الغالب لا نوقر كبارنا ولا نحترم علماءنا .. ولا نحفظ لهم مكانتهم وكرامتهم .. إلا بعد أن يفارقونا، نسأل الله لأستاذنا الحبيب الرحمة والمغفرة، وأن يسكنه الله فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.