أموال لا تأكلها النيران .. أ.د كمال حطاب
يردد بعض الناس عبارة سمعتها من أكثر من شخص ، وهي أن لديه أموالا تكفيه لولد الولد .. أو أن لديه أموالا لا تأكلها النيران ..إلخ فهل هذه عبارات مقبولة شرعا ؟ ..
مما لا شك فيه أن مثل هذه العبارات إذا قيلت في مجال حمد الله وشكره وبيان كثرة نعمه على العبد فلا شيء فيها ، ولكن الواضح أن أغلب من يطلق هذه العبارات يطلقها في مجال التفاخر والاعتداد بالنفس ، وعدم حاجته لأحد من البشر ، وليس في ذلك أيضا انحراف أو بعد عن الشريعة إذا كان يؤدي حق هذا المال ، من شكر لله واعتراف بنعمه وفضله .. مع ما في هذه العبارة من مبالغة وعدم واقعية .
المشكلة تظهر عندما يكون إطلاق هذه العبارات يتضمن التمرد والجحود لنعم الله والانتقاص من الآخرين ، وإرجاع الفضل في تحصيل هذا المال لجهده وذكائه وخبرته وامتلاكه طاقات لا يمتلكها معظم الناس .. عندها يكون حال هذا الشخص كحال قارون عندما نصحه قومه بشكر الله وعدم الفساد ، فرد عليهم بإرجاع الفضل كله لعلمه وذكائه ” قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ” ( القصص ، 78)
فكان عاقبته الخسف به وبداره وكنوزه التي لا يستطيع الرجال الأقوياء حمل مفاتيحها لضخامتها .. وجعله عبرة لمن يعتبر .
فهؤلاء الذين يرددون كلام قارون ، ويرجعون الفضل لعقولهم وجهودهم دون شكر الله واعتراف بفضله وكرمه .. يستحقون مصيرا كمصير قارون ..
إن حب المال وتكثيره هو غريزة إنسانية محترمة ، عندما يكون كسب المال وإنفاقه وتثميره وإدارته بطرق حلال وأدوات وأساليب مشروعة .. أما المفاخرة بالمال وكثرته والتباهي على خلق الله بكثرة المال فليس منهجا مقبولا إسلاميا وإنسانيا ..
ومن جهة أخرى فإن جمع المال وتكثيره ليس أمرا محمودا دائما ، ولا يعود بالخير على صاحبه ، ما لم يلتزم بضوابط شرعية ، فلا بد أن يخرج زكاته أولا ، ثم يؤدي ما على المال من حقوق ، والحقوق تشمل النفقة على الأهل والأقارب وكل من يلزمه نفقته ، حتى ولو كان في أقصى عشيرته ، إذا كان من الممكن أن يرث منه لو كان الوضع معكوسا لقوله تعالى ” وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَٰلِكَ” ( البقرة ، 233 ) كما تشمل حقوق المال ، القرض الحسن ، والعارية ، إضافة إلى تشغيل المال ، فلا يصح أن يبقى المال محبوسا دون تشغيل لأنه يمكن أن يدخل في دائرة الاكتناز .
ومن تتبع مواقف النبي صلى الله عليه وسلم وسلوكه في تعامله مع المال النقدي فإننا نجد أنه لم يكن يحتفظ بالنقود أو لا يتركها تبيت عنده ، وكذلك كثير من الصحابة ، وهذا يشير إلى أن الأصل تشغيل المال وإنفاقه في السوق استهلاكا واستثمارا دنيويا وأخرويا ، وبمعنى آخر لا بد أن تكون الأموال النقدية متحركة ، وكلما ازدادت سرعة دوران النقود بمعنى انتقالها من يد إلى أخرى كلما ازداد المجتمع تشغيلا وإنتاجا وتقدما ، وكلما ازداد حبس النقود وكنزها في البنوك كلما ازداد المجتمع انكماشا وكسادا وتخلفا …
إن من يملك مالا لا تأكله النيران في ظنه ، سوف تأكله نفقات أصغر مرض قد يصيب الإنسان ، وإذا لم تأكله نفقات المرض ، وبقي المرض فإنه لا نفع فيه لصاحبه .. ولذلك فإن الأفضل من هذه العبارة هي عبارة الحمد لله والشكر لله ، لأنه هو واهب النعم وواهب المال ، وهو المالك الذي لا تنفد خزائنه ” وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ ” ( المنافقون 7)