المهنية والنهوض الحضاري أ.د كمال حطاب
عايشت مصطلح ” المهنية ” لمدة عامين ، حين عملت في ماليزيا وكيلا للجامعة للشؤون الأكاديمية ، وكان لدينا موظفون ماليزيون وعرب ، وكان الفرق في أداء الأعمال كبيرا ، فمعظم الموظفين الماليزيين يؤدون أعمالهم بمهنية عالية دون تذمر أو ضجر بعكس غير الماليزين من العرب غالبا ، فمعظمهم يؤجلون أعمالهم ويكثرون الشكوى والتذمر بخصوص الراتب وصعوبة العمل .. إلخ .
لعل أقرب المعاني لمصطلح المهنية هو الإتقان أو الإحسان أو الكفاءة العالية في أداء أي عمل ، وبكلمات أخرى أن يؤدى العمل وفقا للمواصفات والشروط المطلوبة بحرفية كاملة ..
عندما يسود هذا المصطلح في كافة المرافق والمجالات في المجتمع ، فإن المجتمع سيتحول إلى مجتمع متقدم بلا شك .. ففي مجال التعليم الجامعي عندما يكون لكل مساق أوصاف محددة معتمدة من هيئات اعتماد معتبرة ، يتم الالتزام بها من قبل عضو هيئة التدريس ومن قبل الطلبة ، عندئذ يمكن أن يقال بانه توجد مهنية في التعليم ، وكذلك عندما يكون لعضو هيئة التدريس مؤهلات وخبرات محددة يتم التقيد بها عند التوظيف عندئذ توصف المؤسسة بالمهنية ويوصف عضو هيئة التدريس بالمهنية كذلك .
وفي مجال أداء الوظائف العامة وتقديم الخدمات العامة ، نقول بأنه عندما تؤدى الوظائف وتقدم الخدمات العامة للناس في أقصر وقت وأقل جهد وتكلفة وبأفضل نوعية نقول بأن الخدمات تؤدى بمهنية عالية وهكذا في جميع الأعمال والخدمات التي يتبادلها الناس في المجتمع ..
وعندما تؤدى الخدمات الطبية بأقل وقت انتظار وأقل تكلفة وأفضل معالجة صحية ، وأعلى وأرقى مشاعر إنسانية ، يمكن أن يقال بأن الطبيب ذو مهنية عالية ..
وإذا نظرنا إلى حال معظم دول العالم فسوف نجد أن الدول المتقدمة تزداد فيها المهنية والاحترافية أما الدول المتخلفة فإن المهنية والاحترافية هي في أقل درجاتها وأسوأ أشكالها ..
وعندما نبحث في السبب فسوف نجد أن خصائص البيئة المحيطة بالعملية الإنتاجية في الدول المتخلفة هي السبب في انخفاض المهنية والكفاءة ، ولعل من أبرز هذه الخصائص .. المحسوبية والواسطة وتحديد المركز الاجتماعي للفرد مسبقا ووضع الرجل المناسب في المكان غير المناسب والتسيب والغياب عن العمل .. إلخ
وتنعكس هذه الخصائص على كافة قطاعات ومرافق المجتمعات النامية وفي الدول العربية بشكل خاص، في التعليم والصحة والقطاع التجاري والصناعي والزراعي والخدمات والقطاع العسكري والأمني .. وقطاع الشباب والرياضة والتدريب والتأهيل ..
ولعل من أبرز خصائص البيئات المتخلفة التي لا يشار إليها في كتابات التنمية الخصائص النفسية التي تتسم بها الأجيال الناشئة في البيئات المتخلفة، ففي ظل غياب الحريات في معظم هذه الدول والشعور بالظلم والقهر ، وغياب العدالة الاجتماعية ، تنشأ الأجيال خائفة مذعورة ذليلة .. ومثل هذه الأجيال لا ينتظر منها أن تحقق تقدما أو نهوضا حضاريا .
إن غياب الحرية والكرامة لا يمكن أن تحفظ مهنية أو احترافية أو كفاءة أو مصداقية ، ففي ظل غياب الحرية والكرامة والعدالة سوف تنتشر كافة أشكال الظلم والتسيب والانتهازية والنفاق الاجتماعي ، ولن تقوم لهذه الأمة قائمة حتى تسترد حريتها وكرامتها ، وتعيش في ظل العدالة والأمانة والكفاءة والإحسان والمهنية ..
إن المهنية ليست شعارا أو خاصية يمكن اكتسابها فجأة أو دون تخطيط أو مقدمات ، ولكنها منهج حياة تتطلب تغييرا في سلوك المجتمع بالكامل ، إن المهنية تتطلب تغييرا في مناهج التعليم ابتداء من الحضانة والمدارس الابتدائية وانتهاء بالتعليم الجامعي ، مناهج تتضمن تقديس العمل والإنجاز والإخلاص والكفاءة ، مناهج يعدها متخصصون يفخرون بتاريخهم وأمجادهم وقيمهم واستقلالهم ، وليست مناهج تكرس التبعية والهزيمة النفسية ..
إن المهنية في ماليزيا ، وكما أعلن مهاتير محمد باني نهضة ماليزيا ، بدأت بـــكلمة ” اقرأ ” ، وركزت على بناء الإنسان في كافة المجالات العلمية والحضارية ، الإنسان الذي يعتز بقيمه وأخلاقه وكتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، قبل أن يأخذ الحكمة والعلم عن الشرق أو الغرب .. فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها .