هل يوجد إعجاز اقتصادي في القرآن الكريم؟ … أ.د كمال حطاب
مما هو متفق عليه بين العلماء أن الإعجاز في القرآن الكريم ليس محصورا في جانب واحد كالجانب البياني، وكذلك فإن جوانب الإعجاز لا يمكن أن تنتهي ، فكلما ازداد الإنسان علما ، واتسع أفقه في أي مجال من المجالات ، رجع إلى القرآن فوجده قد كشف عن هذا المجال قبل أن يهتدي الإنسان إليه .. وينطبق ذلك في المجالات اللغوية والبيانية والبلاغية والعلمية والطبية والهندسية والفيزيائية والكيميائية ، كما ينطبق في العلوم الاجتماعية والاقتصادية وسائر العلوم الإنسانية .
فالقرآن معجز بكافة مضامينه وموضوعاته ، وهو محل تحدٍ للبشر في عصر النبوة ، وفي كافة العصور إلى قيام الساعة .. هذا التحدي قائم في كافة المجالات العلمية الطبيعية والإنسانية .. قال تعالى ” وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ”( البقرة ، 23) .
ومن المجالات التي حظيت بالاهتمام الشديد في هذا العصر ، المجال الاقتصادي .. فهل يوجد في القرآن الكريم إعجاز أو تحد في الجانب الاقتصادي ؟ وكيف نثبت ذلك ؟
إن الجانب الاقتصادي في حياة البشر جانب متغير ، غير مستقر ، يتصف بالتقلبات الاقتصادية كما هي التقلبات الجوية ، ويصف الاقتصاديون هذه الظاهرة بالدورات الاقتصادية ، وقد سعوا بمختلف مدارسهم لوضع نماذج وتصورات لكيفية تحقق التوازن الاقتصادي ، بعد ظهور الأزمات أو التقلبات ، غير أن معظم تلك النماذج كانت تعيش في عالم الأحلام النظرية البعيدة عن الواقع .. فهل يمكن إيجاد نموذج أو منهج حقيقي يمكن أن يحقق الاستقرار والتوازن بحيث تختفي فيه المشكلات والأزمات أو تنخفض حدتها إلى أقل درجة ممكنة ؟ إذا تمكن البشر من إيجاد هذا النموذج فسوف يكون نموذجا معجزا ؟ غير أن دراسة التاريخ الاقتصادي الإنساني تفيد بوضوح بعدم وجود مثل هذا المنهج أو النموذج إلا في عالم الأحلام ، كما ورد في نموذج باريتو للأمثلية ، وفقا لدراسة محمد عمر شابرا .
مما لا شك فيه أن نموذج التوازن أو المنهج المطلوب لتحقيق التوازن ، موجود فقط في القرآن الكريم ، وقد ضمن الله عز وجل لمن أخذ بهذا المنهج الاستقرار والطمأنينة سواء كان على المستوى الفردي أو على مستوى المجتمع ..
فإذا ما حرص الأفراد أو المجتمع على الالتزام بهذا المنهج وتطبيق كافة ما ورد فيه ، فسوف تنخفض حدة المشكلات أو التقلبات إلى أدنى درجة ممكنة ، وقد تم تجريب هذا المنهج في مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم في عصر النبوة ، كما تم تجريبه في العصور الإسلامية الزاهرة التي حقق فيها المسلمون أعلى درجات الرفاهية والتقدم الاقتصادي والعلمي والحضاري في كافة المجالات .
ويبدو هذا المنهج واضحا في آيات القرآن الكريم ، فمن خلال العمل بما ورد في القرآن الكريم من توجيهات وضوابط وتشريعات ، يمكن للمجتمع الوصول إلى أعلى درجات الاستقرار والتوازن والطمأنينة والازدهار .
ولكي لا يكون الكلام عاطفيا فقط ، نستعرض عددا من الموضوعات التي وردت في القرآن الكريم ، ونركز على جوانب الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي التي تضمنتها هذه الموضوعات بشكل مباشر أو غير مباشر، والتي يظهر من خلالها ملامح الإعجاز الاقتصادي في القرآن الكريم .
فلو نظرنا إلى آيات التوحيد والعقيدة التي وردت في سور عديدة ، لعل من أشهرها سورة هود ، فإننا نلاحظ أن هذه الآيات تقود إلى التسليم بوجود إله واحد هو المعبود بحق وهو الحاكم والمشرع وهو الخالق والرازق … ، وبالتالي فلا تشتيت ولا زيغ ولا اضطراب في التصور أو السلوك ، وهذا ما يؤدي إلى استقرار ووضوح في الحياة العملية ، فيتجه كل إلى عمله وهو يستشعر مراقبة الله له ويعلم علم اليقين بأنه سوف يرى نتيجة عمله في الحياة الآخرة ، فيخلص في عمله ويبذل أـقصى ما لديه من أجل زيادة العطاء والإنتاج ونفع المجتمع.. فعلى قدر قوة العقيدة والإيمان يزداد المجتمع قوة وتقدما وازدهارا .
ولو نظرنا إلى الآيات التي تتحدث عن العبادات فلا شك أن لها جوانب وأبعادا اقتصادية تزيد في الطمأنينة والاستقرار ، فكلما ازداد الإنسان طهرا ماديا وروحيا امتلك طاقات إيجابية تزيده عطاء وتضحية وإيثارا ورغبة في زيادة الخير والتقليل من الشر .. زيادة الطيبات والصالحات والتقليل من الخبائث والفواحش .. وهو ما يؤدي إلى الاستقرار والتوازن الاقتصادي .
وعندما تتحدث الآيات عن المعاملات وتحرم الربا والغرر والغش والاحتيال والخداع والاستغلال .. وتأمر بأداء الأمانات وتوثيق المداينات والوفاء بالعقود .. إلخ ، فالأمر كذلك ، فالمعاملات السليمة تسرع عجلة الاقتصاد كما تزيد من شيوع الثقة والاستقرار في الأسواق ، وهكذا في كافة المجالات الحياتية التي نزلت فيها تشريعات قرآنية ، لا يمكن أن نفصل الجوانب الاقتصادية عنها .
إن الإعجاز الاقتصادي يبدو واضحا جليا ، عندما يتم الالتزام بالتعاليم القرآنية بشكل كامل ، وينجم عن هذا الالتزام زيادة في الاستقرار والتقدم الاقتصادي ، فمهما كانت الظروف أو الأزمات الاقتصادية التي تعصف بالأسواق وكافة القطاعات الاقتصادية ، فإن الالتزام بالتعاليم القرآنية وتطبيقها ، سوف يحد من الأزمات على الفور ويعمل على تلاشيها .. وإذا كانت هذه التعاليم القرآنية مطبقة بشكل دائم فإن الأزمات والمشكلات الاقتصادية لن تظهر إلا بقدر ضعف التمسك بهذه التعاليم ..