هل سينهار الاقتصاد الأمريكي؟؟ …. أ.د كمال توفيق حطاب
كثرت في الآونة الأخيرة الأخبار المثيرة حول احتمالية انهيار الاقتصاد الأمريكي مع بداية الشهر القادم إذا ما عجزت أمريكا عن سداد ديونها .. واشتعل اليوتيوب بمئات وربما آلاف الفيديوهات التي تتحدث عن هذا الأمر ، وعن قرب انهيار الدولار ، نظرا لاتفاق دول بريكس الخمسة على تجنب التعامل به ، واتفاق كثير من الدول على التبادل التجاري فيما بينها بالعملات المحلية .. إلخ من هذه الأفكار التي تتزايد يوما بعد آخر .
ومما لا شك فيه أن كثيرا من هذه الأخبار تتضمن توقعات محتملة ، ولكنها احتمالات ضئيلة ، وتتطلب ظروفا ربما يصعب أو يستحيل وجودها .. فبالنسبة لحجم الدين الأمريكي والمتمثل أساسا بسندات الخزينة الأمريكية ، ووجود قانون يمنع زيادة سقف الدين عن الحد الحالي . فإن هذا الأمر تكرر سابقا مرات عديدة ، وتكلموا عن إغلاق الحكومة الفيدرالية الأمريكية ، وما يسمى بالهاوية المالية .
ولكن الأمر سرعان ما تم حله من خلال الاتفاق في الكونغرس الأمريكي بين الحزبين الأساسيين على السماح برفع سقف الدين ، وعندما يتم السماح تنتهي المشكلة .. إذن المسألة ببساطة هي مسألة سياسية وليست مسألة اقتصادية ، فبمجرد اتفاق الحزبين على السماح بزيادة سقف الدين إلى حد معين أو بشكل مفتوح ، سوف تنتهي المشكلة وتبدأ المطابع بالطباعة وضخ الدولار الأخضر الذي يتسابق ويتهافت عليه معظم البشر ، شعوبا وحكومات .. مهما كان موقفهم السياسي من أمريكا والاقتصاد الأمريكي .
وبالنسبة لقرب انهيار الدولار فالمسألة أيضا أقرب إلى الاتفاق السياسي بين الدول السبعة التي يطلقون عليها السبعة العظام ( G7 ) ، فما دامت هذه الدول متفقة بينها على تقاسم كعكة الاقتصاد العالمي فسوف يستمر الدولار ويستمر النظام النقدي الدولي الذي تم الاتفاق عليه في بريتون وودز عام 1944 ، وعلى تعديلاته المتتالية ، والتي كان أهمها عام 1971 عندما تم تنحية الذهب عن دوره النقدي العالمي ، وإحلال الدولار مكانه ، وذلك من خلال إعلان إمريكا رفض طلبات تحويل الدولار إلى ذهب ، وبالتالي قبلت دول العالم منذ ذلك الوقت أن يكون الدولار مكان الذهب ، ولا يزال الأمر مستمرا حتى وقتنا الحاضر ..
إن المسألة في غاية البساطة ولا تتطلب كل هذه الإثارة الإعلامية سواء في مسألة سقف الدين الأمريكي أو في مسألة انهيار الدولار ، لأن كلا المسألتين مبنية على اتفاقات سياسية ، الأولى اتفاق سياسي داخلي بين أكبر حزبين في أمريكا على الاستمرار في رفع سقف الدين ، وقد وافق الكونغرس الأمريكي على هذا الأمر أكثر من 80 مرة وفقا لبعض الدراسات ، فما الذي يمنعه من الموافقة في الوقت الحاضر ؟ خاصة بعد إفلاس عدد من البنوك الأمريكية والمخاطر الناجمة عن الحرب الأوكرانية .. إن عدم موافقة البعض على رفع سقف الدين الأمريكي ، ربما تصل إلى درجة الخيانة الوطنية ، ولذلك يستحيل أن يقوموا بذلك في هذه الظروف ..
إن الديون تكون خطيرة وقد تقضي على الاقتصاد عندما تعجز الدول عن السداد ، وهذا ينطبق على كافة دول العالم باستثناء أمريكا ، والتي تنفرد وحدها بطباعة الدولار وبالكمية التي تشاء ، وتستفيد هي وحدها من ضخ الدولارات على مستوى العالم ، إن هذه الميزة في طباعة الدولار بلا حدود أو سقوف هي ميزة ، تتمتع بها أمريكا وحدها دون سائر شعوب الأرض ، ولا يمكن أن تتخلى عنها لمصلحة أحد .
ولا يعني ذلك وجود استحالة عقلية في انهيار الاقتصاد الأمريكي أو الدولار ، فالمسألة تندرج تحت الممكنات العقلية ، ولكنها تتطلب ظروفا عالمية ربما يصعب توفرها في الوقت الحالي .. ومن ذلك أن يكون الدولار عملة غير مقبولة في معظم دول العالم ، وأن تستغني الشعوب عن بطاقات الفيزا والماستر كارد وغيرها من البطاقات الائتمانية العالمية ، وأن تستغني البنوك عن نظم التحويلات المالية الدولية التي تبدأ من أمريكا ، وأن تستغني الشعوب عن مستورداتها من السلع الأمريكية من الغذاء إلى الدواء إلى السلاح إلى الطائرات .. إلخ ، وحتى الأفلام الأمريكية والألعاب الإلكترونية وأدوات الترفيه الأخرى لا تزال محل طلب شديد لدى معظم الشعوب في العالم .
إن الاقتصاد الأمريكي وحده يشكل قريبا من ربع الناتج الإجمالي العالمي ، وإن شعوب وحكومات دول العالم تتسابق وتتنافس وتعمل المستحيل من أجل الحصول على الدولار .. وما دام هذا الوضع مستمرا ، فإن مسألة انهيار الدولار أو الاقتصاد الأمريكي هي مسألة بعيدة الحدوث ، نظريا وعمليا .