هل يمكن إسقاط القروض عن المقترضين الإيجابيين ؟ أ.د كمال حطاب
من المتفق عليه فنيا واقتصاديا أن البنوك التجارية تخلق كميات ضخمة من النقود .. تتناسب مع مرونة تشريعات البنوك المركزية فيما يتعلق بنسبة الاحتياطي أو الرصيد النقدي ، فكلما زادت هذه النسبة انخفضت قدرة البنوك على خلق نقود جديدة ، وكلما انخفضت هذه النسبة زادت قدرة البنوك على خلق نقود جديدة .. وهذا يعني أن هذه النسبة إذا كانت صفرا فإن قدرة البنوك على خلق النقود ستكون مطلقة وبلا حدود .. وربما هذا ما يفسر حقيقة أن البنوك قد تخلق نقودا من لا شيء .
ومهما بلغ حجم البنك ، وقوة سمعته ، وتصنيفه الائتماني ، فإنه عندما يتعرض لموجات سحب كبيرة جدا ، فإنه سيتعرض للإفلاس ، لأنه ببساطة قد أقرض أموالا طائلة لا يمتلكها .. كما حدث لبنك سيليكون فالي ، وسيغنيشر ، وغيرها من البنوك ، وكما حدث لأكثر من 500 مصرفا عالميا منذ الأزمة العالمية عام 2008 .
إن حقيقة أن البنوك تخلق نقودا من لا شيء ، هي أشبه بحقيقة أن النقد الدولي أو الدولار يُطبع من لا شيء ، وتتمتع أمريكا وحدها بمزايا إصدار الدولار ، ومبادلته بجهود وسلع وخدمات العالم دون مقابل ، وبالرغم من أن هذه الحقيقة معروفة ، إلا أن أحدا من الدول أو الحكومات لا يستطيع التغيير أو الاعتراض .
هل يمكن إيجاد مؤسسة للمقترضين وبضمان الحكومة ، تسجل فيها ديون المقترضين ، وربما تتحول إلى سندات بضمان الحكومة ، بحيث يتم السداد والإغلاق لهذه الديون ، ومن خلال تشريعات قانونية تنظم هذه العملية وتفرق بين المقترض المستثمر والمقترض السيء والمقترض المقامر .. أو بمعنى آخر، بين المقترض الإيجابي والمقترض السلبي ؟ فما دام يسمح للبنوك بإقراض مبالغ تفوق عشرات ومئات المرات حجم رأسمالها ، فلماذا لا يسمح للمقترضين الإيجابيين بإغلاق ديونهم على شكل سندات بضمان الحكومات ، فالمهم هو وجود تشريعات قانونية تحمي هذه الديون … كما هو جار حاليا في كثير من دول العالم ، حيث يوجد حماية لكثير من المؤشرات والخيارات والمستقبليات وأذونات الخزانة الأمريكية وغيرها.. والتي لا تمثل سوى أرقاما أو ديونا تخضع لتداول منظم قانونا .
إن مسألة النقود في نظري هي مسألة قوة الدول وقوة تشريعاتها ، وقوة كبار أصحاب المصالح ، تلك القوة المولدة للطلب أو المضاربة على العملة ، مهما كانت هذه العملة ورقية أو رقمية أو افتراضية أو أي شيء آخر يتم التعارف عليه . وهذه القوة تستمد من قوة رأس المال ، فكبار الرأسماليين هم من يقررون كل شيء ، هم من قرروا قانونية العملات الورقية وهم من يستطيعون إلغاءها ، وهم من قرروا قانونية العملات الائتمانية ويستطيعون إلغاءها ، كما يمكنهم أن يقرروا قانونية العملات الرقمية أو الافتراضية أو قانونية الديون والأرقام التي تمثلها أو أي شيء آخر.
إن المسألة ببساطة تعتمد على مدى وجود تشريعات منظمة لهذه الديون ، بحيث يكون تداولها ، بما يحقق مصلحة الاقتصاد وتقدمه .
إن التشريعات المنظمة لأسواق السندات والصكوك هي في الحقيقة تشريعات لتنظيم الديون سواء كانت مغطاة بأصول أو غير مغطاة بأي شيء .. وطالما كانت التشريعات قوية وتخدم مصالح المجتمع والفئات التي تدير الاقتصاد ، فإن الأوضاع الاقتصادية وأوضاع البنوك ستبقى قوية ومستقرة.
إن تحركات أسواق التداول هي المؤشر الوحيد حول سلامة النقود الورقية أو الائتمانية أو الافتراضية ومدى قوتها وانتشارها ، وتبقى آليات العرض والطلب التي يتحكم فيها كبار أصحاب المصالح هي الآليات الوحيدة المعتمدة ، وتبقى الحاجة ماسة لوجود تشريعات تنظم إسقاط الديون عن المقترضين الإيجابيين ، في حالة كان هذا الإسقاط يؤدي إلى خدمة الاقتصاد وخدمة المجتمع .