الهجرة النبوية .. نظرات اقتصادية أ.د كمال حطاب
بالرغم من حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا يترك في بيته دينار ولا درهم .. إلا أنه كانت له أموال وتجارة من أيام خديجة رضي الله عنها .. وبالتالي فهو لم يترك مكة.. مفلسا .. هاربا .. من بلده بسبب الظروف الاقتصادية أو المالية ، كما يفعل كثير من الناس في وقتنا الحاضر ..
وإنما كان منفذا لأمر الله بالخروج من مكة إلى المدينة حيث يمكن بناء أول كيان دولي إسلامي مستقل .. تعترف به الأمم الأخرى وتحسب له ألف حساب .. خاصة بعد أن وقع جميع ساكني المدينة وما حولها من قبائل على وثيقة المدينة التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم بمثابة دستور للدولة يتضامن فيه كافة سكان المدينة من مسلمين وغيرهم من عرب ويهود على الدفاع عن المدينة وأن يكفلوا بعضهم ويفدوا بعضهم ويتكافلوا في الديات وغيرها مما يستلزمه الوئام والعيش المشترك بين الناس .
كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو الصادق الأمين في عرف قريش وأهل مكة ، وقد عرفوه قبل البعثة صادقا أمينا كريما وفيا واصلا للرحم ، وكان بيته صلى الله عليه وسلم أشبه بمصرف لودائعهم ..، ومع ذلك رفض معظم العتاة العتاولة الدخول في دين الله .. استكبارا وعلوا .. وحسدا من عند أنفسهم .. وحفاظا على تقاليدهم الجاهلية ..
لم تكن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم هجرة فرد واحد أو اثنين ، وإنما كانت هجرة مجتمع بالكامل ، وبالتالي فلا شك أنها كانت محسوبة مدروسة ، وكان الأغنياء في هذا المجتمع المؤمن ، يتحملون معظم التكاليف .. خاصة وان كثيرا من المسلمين قد تركوا بيوتهم وأموالهم في مكة ..
كانت البداية بالمؤاخاة .. وهو نظام غير مألوف في ذلك الزمان .. ومع ذلك فقد نجح هذا النظام في توطيد الأواصر الإيمانية ، وفي القضاء على شح النفوس .. فقام الأنصار بمقاسمة أموالهم وبيوتهم مع أخوانهم المهاجرين بطيب نفس وكرم أخلاق .. حتى باتوا كالجسد الواحد وكالبنيان المرصوص ..
سارع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بناء المسجد الجامع لأداء الصلاة وليكون مركزا ومنطلقا للمسلمين في خطواتهم القادمة .. كما عمل المسجد على أن يكون مركز إيواء لمن لا مأوى له في البداية .. حيث كان يلجأ إليه من أطلق عليهم أهل الصفة .. وكان الناس يتسابقون إلى وضع حبال التمر في المسجد لإطعام كل جائع ..
كما عمل النبي صلى الله عليه وسلم على إنشاء سوق خاصة بالمسلمين .. وفي ذلك تخلص من التبعية لأسواق اليهود واقتصاداتهم الربوية ..
وقبل كل ذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم على الإنفاق في سبيل الله في أحاديث كثيرة .. وكان يبدأ بنفسه فلا يترك في يده أو بيته درهم ولا دينار إلا وقد أنفقه لمن يحتاجه .. وهكذا فعل الصحابة رضوان الله عليهم .. وقد كانت الآيات القرآنية ومن خلال سورة البقرة وغيرها من السور تبني في هذا المجتمع سلوكيات الإنفاق والتكافل والإحساس بالآخرين وتنزع من نفوسهم الشح والبخل والتعلق بالمال وكنزه ..
عمل النبي صلى الله عليه وسلم على بناء اقتصاد ذاتي بسيط من خلال الحث الدائم على العمل والاكتساب والحث على الإنفاق وتجنب الربا والمتعاملين بالربا .. والحث على القرض الحسن والتعامل الحسن والصدق والأمانة وعدم الغش والاحتيال والخداع ..
واستمر اقتصاد المدينة بسيطا.. صغيرا في حجمه إلى أن حدثت غزوة بدر في السنة الثانية للهجرة .. حيث فُتح للمسلمين باب جديد من الإيرادات الضخمة الناجمة عن الغنائم وفداء الأسرى وما يتعلق بها .. وجاءت سورة الأنفال تقرر بأن كافة الغنائم هي لله.. ولرسوله .. يضعها حيث شاء في الفقراء والمساكين واليتامى وأبناء السبيل .. إلخ .. في قوله تعالى ” يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ” ( الأنفال ، 1)
افتتحت السورة بتقرير حقيقة أن الأنفال والغنائم والأموال هي لله وللرسول ، وبالتالي فلا حق لأحد بالسؤال ، وحتى لو وزعت هذه الأموال على المسلمين جميعا أو على الفئات الضعيفة فقط، فلا حق لأحد بالاعتراض ، فالمال مال الله ، يعطيه لمن يشاء ، وهو في أيديكم أمانة يجب عليكم أن تتقوا الله في كيفية إنفاقها وتداولها .. وتبدأ السورة بتقوية الصف من خلال إصلاح ذات البين .. وإصلاح ذات البين مصطلح ذو دلالة عظيمة ..فهو يسبر أعماق النفوس والقلوب لكي يصلح كل ما قد يكون علق بها من غل أو حقد أو حسد أو كراهية بين المؤمنين ..
لم يعترض أحد من المسلمين على توزيع الغنائم .. وهذا يشير إلى أن الغزوات والمعارك في تاريخ الإسلام لم تكن لأسباب اقتصادية .. وإنما كانت لإعلاء كلمة الله .. وفي هذا رد على افتراءات المستشرقين وأعداء الإسلام ممن قالوا بأن الفتوحات الإسلامية كانت لمطامع اقتصادية .
فلو كان الباعث وراء الفتوحات الإسلامية .. المطامع الاقتصادية .. لما دخلت الأمم الأخرى في دين الله ، ولما وجدنا الآلاف وعشرات الآلاف من الصحابة يروون بدمائهم أراضي الشام والعراق ، ولما انتصر هذا الدين ، ودخل الناس في دين الله أفواجا .