التقاعد المبكر .. نظرات اقتصادية
التقاعد المبكر .. نظرات اقتصادية
يسعى معظم الموظفين في معظم دول العالم إلى خفض سن التقاعد إلى أقل من 60 عاما ، ويحتجون ويتظاهرون عندما تحاول الحكومات ومؤسسات الضمان رفع سن التقاعد إلى 62 أو إلى 65 عاما ، باعتبار أن الفرصة العمرية المتبقية من حياتهم بعد التقاعد ستكون قصيرة جدا .. أما مؤسسات الضمان فهي تحاول توفير رواتب تقاعدية لأكبر عدد ممكن من المشتركين ، وكلما كانت فترة التغطية أقصر كلما كانت مؤسسات الضمان أكثر نجاحا .
ولعل من أشهر الاحتجاجات المعاصرة ، المظاهرات والاضرابات المستمرة في فرنسا احتجاجا على قانون يسمح برفع سن التقاعد من 62 إلى 64 .
ومن جهة أخرى فإن معظم الموظفين يرفضون التقاعد المبكر باعتبار أن الراتب التقاعدي سيكون منخفضا وربما لا يكفي لتلبية مطالبهم واحتياجاتهم ومن يعولون .. غير أن إعادة النظر في موضوع التقاعد المبكر وما له وما عليه ، ربما يؤدي إلى قناعة كثير من الناس بالتقاعد المبكر ، خاصة إذا كانت لديهم طاقات وإمكانات من أجل البدء من جديد ، وزيادة القدرات الإنتاجية والاستهلاكية والحركية والتأملية .. إلخ
إن التقاعد المبكر معناه أن لدى معظم الناس فرص عمرية أكبر من الذين يتقاعدون متأخرا .. والأعمار بيد الله .. وبالتالي فإن لديهم حاجات أكبر وفرص استهلاكية وإنتاجية أكبر ، كما أن لديهم طاقات أكبر وأفضل ممن تقاعد وهو طاعن في السن .. وهذا يعني وجود فرص إنتاجية أكبر مما يزيد من الإنتاج والتشغيل في المجتمع ويساعد في زيادة دوران عجلة الاقتصاد
ومن جهة أخرى فإن التقاعد المبكر ، يعني زيادة الشواغر وفرص العمل أمام الطاقات الشبابية من أجل الإسهام في زيادة الإنتاج وزيادة حركة الاقتصاد بما يزيد من معدلات التشغيل والتنمية .
إن التقاعد المبكر معناه أن المنافع الحدية للسلع والخدمات لا تزال أعلى وأكبر ،ولا شك أن هذا يزيد من الشغف والحماس والتطلع إلى تحقيق المزيد منه الأهداف وأداء المزيد من الأدوار والإسهام الأكبر في خدمة المجتمع .. فكلما تقدم الإنسان في العمر كلما تناقصت المنافع الحدية لديه ، نظرا لتناقص احتياجاته ، وكلما تناقصت المنافع الحدية تتناقصت الأهداف والأدوار والآمال وتساوى لدى المرء الكثير من المنافع والآلام ..
أما إذا كان تفضيل التقاعد المتأخر طمعا في زيادة الراتب التقاعدي ، فإن التضخم وارتفاع الأسعار السائد في معظم دول العالم ، سوف يحول دون الاستفادة من هذه الزيادات الشكلية في الرواتب التقاعدية ..
إن الفرصة في تحقيق حد الكفاية أو الاكتفاء الذاتي في حالة التقاعد المبكر ستكون أكبر منها ، من التقاعد المتأخر خاصة إذا كان الأجر الوظيفي منخفضا ، لأن مثل هذه الحالات وهي حالات معظم الموظفين في دول العالم الثالث ، لن يستطيع المتقاعد وهو في سن متقدمة ، أن ينفع نفسه أو يبذل أي جهد من أجل تحسين دخله أو زيادة إنتاجه .. وسوف يكون الراتب التقاعدي ضئيلا جدا في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة ، وتضاؤل القوة الشرائية للعملة ..
إن التقاعد المبكر إذا سمحت به مؤسسات الضمان الاجتماعي ، يمثل فرصة جديدة لكل صاحب همة ، من أجل أن يحقق ما فاته سابقا ، وما لم يستطع تحقيقه بسبب الوظيفة وارتباطاتها وآثارها .
ومع كل ما تقدم ، فإن هذه المقارنات هي مجرد مقارنة تحليلية حيادية استاتيكية ، مع تثبيت كافة العوامل الأخرى .. ولا شك أن هذه المقارنة لن تكون صالحة عندما ندخل بعض العوامل الأخرى المؤثرة ، أو بعض الحالات الخاصة ، فمثلا وجود التكافل والتراحم في مجتمعات المسلمين سوف يلغي كافة الآثار السلبية التي يمكن أن تنجم عن التقاعد المتأخر ، كما أن وجود التحاسد والتباغض والتشاحن وارتفاع معدلات البطالة ربما يلغي الكثير من الآثار الإيجابية التي يمكن أن تنجم عن التقاعد المبكر ..كما أن وجود حكومات ملتزمة ببرامج صندوق النقد الدولي في منع التوظيف ورفع الدعم عن السلع الأساسية … سوف يؤدي إلى آثار سلبية على التقاعد المبكر والمتأخر وحتى على غير المتقاعدين .