غزة .. والنصر القريب أ.د كمال حطاب
قد يظن كثيرون بأن ما قامت به المقاومة في غزة هو تهور واندفاع وعدم تقدير للعواقب .. غير أن المتأمل جيدا في حال الأمة الإسلامية وما وصل إليه الاحتلال من غطرسة وعربدة واعتداء على المقدسات وانتهاك لحرمة المسجد الأقصى ومحاولات لهدمه واعتداء على الحرائر والشيوخ على أعتاب المسجد الأقصى .. يدرك جيدا بأن ما قامت به المقاومة في غزة كان في مكانه ووقته الصحيح ، لا سيما وأنهم قد عرفوا بوجود مخطط لتهجير أهل غزة واجتثاثهم من أرضهم ..
حققت المقاومة نصرا مؤزرا رفع رأس كل حر شريف في هذا العالم ، ودمر الأسطورة والخرافة التي قامت عليها دولة الاحتلال ، كما دمر أسطورة الجيش الذي لا يقهر .. وكشف عن بداية النهاية لدولة الاحتلال .. وخراب بيت العنكبوت ..
غير أن النصر لا يمكن أن يكون بغير ثمن ، وهذا الثمن دفعته الفئة المؤمنة على مدار التاريخ ، ودفعه الأنبياء والرسل .. قال تعالى ” أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ( البقرة ، 214 )
فهذا حال الفئة المؤمنة في كل عصر ، وهذا ما حدث في غزوة الأحزاب ، وهو ما سيحدث بإذن الله مع الفئة القليلة المؤمنة في غزة .. وقد كانت البداية نصرا مؤزرا .. وسوف تكون النهاية نصرا مؤزرا بإذن الله ..
ولو تأملنا في السيرة النبوية فسوف نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قبل غزوة الأحزاب خطط وعمل وأعد العدة لهذه المعركة عندما علم بخطط الكفار لغزو المدينة .. ورغم كونه نبي .. ودعاؤه مستجاب .. إلا أنه أخذ بالأسباب الدنيوية كاملة .. فقام بحفر الخندق .. وهو عمل شاق جدا .. شارك فيه معظم سكان المدينة واستغرق وقتا طويلا .. ولا شك أنهم تزودوا بالسلاح والمؤن من تمور ومياه وغيرها .. وأعدوا الأماكن التي سوف يتحصنون فيها .. ونقاط الرصد والمراقبة .. وتأكدوا من حماية حدود المدينة من كافة الجهات .. ومع ذلك .. لم يتركوا الدعاء والصلاة والاتصال بالله عز وجل ..
.. صدم الكفار صدمة عظيمة من شدة المفاجأة عندما رأوا مشهد الخندق العظيم الذي يحول بينهم وبين دخول المدينة والقضاء على محمد وصحبه .. صعقوا وأسقط في أيديهم .. وأقاموا على أطراف الخندق أياما يحاولون اقتحامه دون جدوى ..
إن الظروف الإيمانية التي تعيشها المقاومة في غزة هي من جنس تلك الطاقات الإيمانية التي عاشها الصحابة يوم كانوا يخرجون من أماكنهم يتصيدون الكفار بالسهام .. وهم على أطراف الخندق ..وإن الآيات القرآنية التي وصفت حال المسلمين يوم الأحزاب تنطبق بشكل كبير على حال المسلمين في غزة .. ” إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم ” .. كما أن غدر بني قريظة في ذلك الوقت هو نفس الغدر الذي يمارسه كثير من العرب والمسلمين هذه الأيام .. وإن المفاجآت التي تقوم بها المقاومة اليوم .. هي من جنس المفاجآت التي تعرض لها الغزاة يوم الأحزاب ..
إن البلاء الواقع بأهل غزة اليوم هو أشبه بما وقع فيه المسلمون يوم الأحزاب ، فماذا كانت النتيجة ، لقد نصرهم الله ونجاهم وهزم الأحزاب وحده ولكن بعد امتحان عسير زلزل فيه المسلمون زلزالا شديدا . قال تعالى ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)
إن من سنة الله تعالى أن ينصر الفئة القليلة المؤمنة على الفئة الكثيرة العدد ، الكبيرة العدة والعتاد ، ولكن بعد أن ينجحوا في امتحان الصبر واليقين بالله ، وبعد أن يتيقنوا بأنه لا ملجأ من الله إلا إليه ، قال تعالى ” حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ” ( يوسف ، 110 )
ولا شك أن زيادة أعداد الشهداء رغم الألم والحزن الكبير ، هي دليل على مكانة وكرامة هذه الفئة المؤمنة ، فليس كل المؤمنين مؤهلين للاصطفاء ، فالشهادة اصطفاء ، قال تعالى ” ولِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ” ( آل عمران 140) .