أسود غزة .. أ.د كمال حطاب
من حضر برنامج ” جيت لحالك ” وهو برنامج كاميرا خفية تم تصويره في غزة في العامين أو الثلاثة الماضية ، وتجري الأحداث فيه، في سيارة تاكسي ، حيث يقوم السائق ( الممثل ) بمحاولة استفزار الراكب ، والذي يكون غالبا متجها إلى عمله ، وليس لديه وقت للاستفزار أو حتى الكلام ، ومع ذلك ينجح السائق في استفزاز الراكب ، وبالتالي يجد في الغالب رد فعل عنيف يكاد أن يودي به .
من شاهد ذلك البرنامج يدرك كم هو حجم المعاناة والمشقة والتعب الذي يبذله العاملون في غزة من أجل تأمين قوت يومهم ، ويدرك أهمية الوقت بالنسبة لهم ، ويدرك كم هو حجم الانفعال والشدة والمصداقية والبراءة ، وحجم الانتماء والولاء للقضية الفلسطينية ، و حجم الامتنان والعرفان للأسرى في سجون الاحتلال ..
إحدى الحلقات كانت عن الأسرى ، وكان السائق يحاول التقليل من أهمية الأسرى ، وأنه يريد أن يعيش ولا علاقة له بالأسرى أو غيرهم ، وقد وجد من كل راكب سمع هذا الكلام ردة فعل عنيفة ، وذلك باتهامه بالخيانة والعمالة تارة أو السلبية المفرطة أو عدم الانتماء لوطنه ..وفي مشهد آخر كان السائق يمدح العمل مع الاحتلال ، وأنه يدر عليه دخل كبير ، وقال بأنه مستعد للعمل مع الاحتلال في أي شيء ، وعندها وعلى الفور طلب الراكب إيقاف السيارة ، وحاول القبض على هذا السائق العميل ..
في أحد المشاهد كان السائق يحاول ابتزاز الراكب من خلال أخذ الأجرة مرتين ، قال له الراكب أنا من بيت حانون ، بتعرف المثل السائد عند أهالي بيت حانون ” الحانوني بشم على إيده بشبع ” يعني في خير ونعمة من الله ، وحتى لو لم يكن لدينا شيء ، فالهواء يكفينا ..
لولا العجرفة والغطرسة والعنصرية الصهيونية لعرفوا واعترفوا بأنهم لن يتمكنوا من هزيمة أهل غزة ، ولو أنهم راقبوا وحللوا ودققوا في ذلك البرنامج فقط لأدركوا بأنهم أمام أسود لا يمكنهم التغلب عليهم ، مهما ارتكبوا من مجازر أو دمروا من بيوت أو مستشفيات أو مدارس أو أماكن إيواء ..
كل تلك المشاهد كانت قبل السابع من أكتوبر ، أما بعد السابع من أكتوبر .. وبعد أن ذاق أهل غزة طعم النصر ، واستنشقوا هواء الحرية والكرامة ، وحققوا بعض امنياتهم في النيل من الاحتلال الذي حاصرهم سبع عشرة سنة وشن عليهم أربعة حروب طاحنة ، دمر فيها غزة ، وقتل وجرح الآلاف وعشرات الآلاف في كل مرة ..
من يراقب تصريحات معظم أهل غزة بعد القتل والدمار ، يجد الشموخ والعزة والأنفة والصبر والتسليم والرضا بقضاء الله وقدره ، يجد فيهم أروع الأمثلة في الصبر والصمود والإصرار على المقاومة ودعم المقاومة .. يجد فيهم أروع الأمثلة في الحرص على الشهادة وفي تكريم الشهداء وتمجيدهم ..
من يراقب الجزيرة مباشر وجولاتها في أسواق غزة ورفح وسائر مناطق غزة ، يجد أن الحياة مستمرة ، والعمال يعملون ، والمحلات التجارية مفتوحة تعرض بضائعها ، والناس يشترون حاجياتهم .. ورغم ارتفاع الأسعار ، بسبب الحصار وظلم ذوي القربى ، فإنهم مستمرون في حياتهم ، يحمدون الله على ما أصابهم ، ويؤمنون إيمانا عميقا بأنهم منتصرون في النهاية ، وأن هذا الاحتلال زائل لا محالة ، إنهم يعشقون الحياة بكرامة ، كما يعشقون الموت في سبيل الله .