بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ أ.د كمال حطاب
بعد مئة سنة من الآن سيكون جميع البشر الذين يعيشون الآن قد فارقوا الحياة ، ليس أهل غزة فقط ، بل أهل أمريكا وروسيا واليهود الصهاينة المحتلين ، وكل من هو موجود الآن في هذا العالم ، وكل من هو آمن في بيته ، ولا يعنيه من قريب أو بعيد ما يجري في غزة .. غير أن ما يتميز به معظم أهل غزة ، أنهم لا يموتون كما يموت باقي البشر ، بل إنهم يرتقون شهداء ، وفي عقيدة كل مسلم ، أن الشهادة هي أعلى وأغلى ما يتمناه كل مسلم ، لأنهم في الحقيقة لن يكونوا أمواتا ، بل أحياء عند ربهم يرزقون ، فرحين بما آتاهم الله من فضله .. ولذلك كان البيان والتوجيه الإلهي للمؤمنين بقوله تعالى ” وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُون ” ( البقرة ، 154)
فهو اصطفاء للشهداء وهي مكانة عظيمة لا ينالها إلا القلة المؤمنة الثابتة على الحق ، كما أنه تمحيص للصف المؤمن ، وغربلة وتنقية للصف من الشوائب ، وكشف للمنافقين أو ضعاف الإيمان الذين يمكن أن يؤتى من قبلهم .
إن ما تتعرض له الفئة القليلة المؤمنة في غزة ، تعرضت له الفئة المؤمنة في أنقى وأطهر فترات التاريخ ،حين كان النبي صلى الله عليه وسلم واحدا من هذه الفئة ، ومع ذلك فقد تعرضوا للحصار والتعذيب والقتل والاغتيالات .. وحتى النبي صلى الله عليه وسلم لم يسلم من المؤامرات على قتله .. في مكة وفي المدينة ، ومع ذلك لم يمنعه ذلك من الإعداد والاستمرار وتبليغ رسالة ربه ..
في غزوة أحد تعرض النبي للغدر والخيانة ، وتعرض شخصيا للأذى ، فسقط في بئر وكسرت رباعيته وشج رأسه وسالت دماؤه الشريفة ، وأشيع بأنه قتل صلى الله عليه وسلم .
فها هو المنادي ينادي بأن محمدا قد قتل ، وما أن سمع الناس هذه العبارة حتى ولى معظمهم مدبرين ، وهنا كان الدرس العظيم ، بأن هذا الدين هو دين الله ، وأنه مستمر وباق ، ولا يرتبط بالأشخاص ، فمحمد صلى الله عليه وسلم سوف يموت كما مات الرسل من قبله ، وهذه الحقيقة اهتزت لها قلوب المسلمين ، خوفا على رسول الله ، وشعورا بثقل المسؤولية الملقاة على عاتقهم ، فهم حملة الرسالة ، وهم شهداء على الناس ، كما كان الرسول عليهم شهيدا . كانت الصدمة كبيرة بسماعهم بموت رسول الله ، وكانت الفرحة عظيمة عندما علموا أنه لم يمت فدبت فيهم الحياة مرة أخرى ورجعوا والتفوا حول رسول الله ، ورأوا ما أصابه صلى الله عليه وسلم من جروح ، ودماء نزفت منه صلى الله عليه وسلم.
إن الآيات التي نزلت في أعقاب غزوة أحد تنطبق على حال المؤمنين في أعقاب كل غزوة في سبيل الله.. كما تنطبق على ما يحدث اليوم في غزة ..
ففي الآيات تربية للنفوس وجبر للخواطر المتألمة ولطف من الله ، بأن ما حدث معكم لا ينقص من شأنكم وقيمتكم عند الله ، فهذا هو المقياس ، فأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ، فلا مجال للهوان للمؤمن وهو المعتز بالله ، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين .
ولا مجال للحزن فأنتم الأعلون وأنتم الأفضل وأنتم أصحاب الحق .. وما أصابكم من أذى فقد مس القوم قرح مثله ، وهذه سنة الله في خلقه ، فما جرى هو امتحان لكم ولثباتكم وطاعتكم ، وهو تمحيص وتمييز للمؤمنين الثابتين المطيعين لله ولرسوله ..