فقه المعاملات وتضييع الأوقات ؟؟ أ.د كمال حطاب
يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في إحدى محاضراته ” لم أجد أمة ضيعت وقتها في أحكام العبادات والمعاملات كالأمة الإسلامية ” .. فهل هذه العبارة كانت دقيقة أم أن الشيخ كان يقصد أمرا آخر ؟ هل ضيعت الأمة الإسلامية وقتها في العلم والعلوم حتى ولو كان فقه العبادات أو المعاملات ؟ أم أن الأمة أضاعت وقتها فيما لا ينفع أو يفيد ؟ هل يصح إطلاق هذه العبارة على العموم ؟
يبدو أن الشيخ كان يتكلم في باب ترتيب الأولويات ، ويتكلم عن العلماء بشكل خاص ، فعندما يتفرغ العلماء للبحث في الأحكام الفقهية لبعض العبادات والأحكام الفقهية للمعاملات المالية في الوقت الذي تُحتل فيه بلاد المسلمين .. وتُنتهك فيه حرمات ومقدسات المسلمين .. وتداس فيه كرامتهم .. وتمارس ضدهم أبشع أشكال الجرائم الوحشية والإبادة الجماعية .. لا شك أن هذا التركيز على فقه المعاملات سيكون تضييعا للوقت وصرفا للجهود عن الأولى إلى ما هو أقل أولوية ..
ومن جهة أخرى فقد غابت كثير من القضايا والمسائل الملحة عن البحث الفقهي خاصة في المجالات السياسية والاجتماعية ، ولم نجد أحدا من أهل المنصات والمنتديات الفقهية المتخصصة يبحث في مسألة تحرير المقدسات واسترداد الأراضي المحتلة أو حتى مقاطعة الكيان المحتل ومن يدعمه .. لم نجد أحدا يبحث في مدى مشروعية رفع الأسعار تلبية لشروط صندوق النقد الدولي أو مدى شرعية الاقتراض بالفائدة أو ممارسة البنوك المركزية لسياسة سعر الفائدة أو مدى مشروعية تتبع البنوك المركزية العربية والإسلامية لسعر فائدة الاحتياطي الفدرالي الأمريكي وإلى متى ؟ وما هو البديل ؟ وكيف يمكن إيجاد بديل مهني يمكن تطبيقه في الواقع ؟
إن عملية البحث الفقهي على منصات ووسائل التواصل الاجتماعي تخالف المنهجية التي قام عليها علم الفقه والبحث الفقهي ، فالاجتهاد الفقهي يقوم على منهجية محددة تعتمد الاستقراء وتحرير محل النزاع وحصر الظاهرة أو المسألة المراد بحثها ومن ثم استعراض آراء الفقهاء وأدلتهم ، وفحص الأدلة ومدى قوتها أو ضعفها وإمكانية قبول الاستدلال بها أو غير ذلك ، ومن ثم النظر في آراء الأولين إذا كانت المسألة قديمة أو لها مثيل في مسائل قديمة .. فإن لم يكن لها نظير في التاريخ ، يوازن بين الآراء والأدلة ومن ثم الوصول إلى الرأي الراجح بمسوغات ومبررات شرعية وعقلية وبما يحقق المصلحة المعتبرة شرعا والمتفقة مع المقاصد الشرعية العليا مع مراعاة الأولويات والمآلات .
بينما تقوم المناقشات الفقهية على مواقع التواصل الاجتماعي بين متخصصين وغير متخصصين ، ويحاول كل منهم أن يقدم رأيه وفتواه دون دليل أو بالاعتماد على قول أحد الفقهاء أو على حديث دون تمحيص درجة الحديث ومعناه وإمكانية الاستدلال به في موضع الاستدلال وماذا قال الأئمة الأوائل … إلخ
يحاول الجميع الخوض بآرائهم التي يغلب عليها غالبا الانتصار للنفس والهوى .. ويغيب عن الجميع أن الموضوع المبحوث ، وهو الوصول إلى الحكم الشرعي ، يعني النقل عن رب العالمين ، أو التوقيع عن رب العالمين كما قال ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين عن رب العالمين .. فالأحكام الشرعية ليست معرضا للخوض فيها من قبل غير المتخصصين ، وحتى المتخصصين فينبغي اتباع منهجية البحث الفقهي المعروفة والمتفق عليها ، وهذه المنهجية يصعب بل يستحيل اتباعها على وسائل التواصل الاجتماعي .. ولذلك ورغم ما يظهر من جهود كبيرة يبذلها الباحثون على منتديات فقه الاقتصاد والتمويل الإسلامي في المناقشات الفقهية وإبداء الرأي في الأحكام الفقهية أو الأحكام الشرعية تحت عنوان يجوز أو لا يجوز .. فإن معظم هذه الجهود ، قد لا توصل إلى نتائج إيجابية على حركة البحث الفقهي ودوره في تيسير حياة الناس في المجتمعات المعاصرة .
قد يجيب البعض بأن مجموعات الاقتصاد الإسلامي والتمويل الإسلامي على الواتس أب هي مجموعات متخصصة بقضايا المعاملات المالية الإسلامية وربما تكون للقضايا السياسية والاجتماعية قروبات أخرى ..
ومع احترامنا للتخصص والمتخصصين ، فإن للعلوم الفقهية منهجيتها ومكانتها ، ولا تتحقق هذه المكانة ولا يمكن الأخذ بالمنهجية الفقهية بشكل سليم على وسائل التواصل الاجتماعي ، ومن جهة أخرى فإن العلماء أو الفقهاء مطلوب منهم أن يكونوا حاضرين في كافة القضايا وخاصة القضايا المصيرية أو ذات الأهمية التي تؤثر في مكانة الأمة وحاضرها ومستقبلها .