بين غزة وستالينغراد … أ.د كمال حطاب
حوصرت ستالينغراد من الجيش الألماني قرابة العامين أثناء الحرب العالمية الثانية .. وكان المدد يصل إلى المدينة من مصادر عديدة .. ودخلت ستالينغراد التاريخ في صمودها وصبرها وبطولتها .. وأصبحت مثالا يدرس في الكليات العسكرية حول الصمود والتحدي ومواجهة الحصار .. وأنتجت حولها الأفلام السينمائية والوثائقية ، وكتبت حولها القصص والروايات والأشعار ، وتغير التاريخ بعد ستالينغراد .. تغير التاريخ بهزيمة الغزاة والمعتدين واندحارهم واستسلامهم ..
وحوصرت غزة قرابة العامين ، ولم يكن لها أي مدد أو معابر .. وارتكب المعتدي فيها أبشع أشكال الإجرام والإبادة الجماعية .. واستخدم أقوى وأشد ما أنتجته مصانع الأسلحة العالمية من أسلحة دمار شامل من قنابل توزن بالأطنان وصواريخ عابرة للتحصينات، ومع ذلك صمدت غزة صمودا أسطوريا رغم القتل اليومي للعشرات والمئات ورغم التجويع والحرمان والحصار الذي منع الطعام والماء والدواء .. صمدت غزة وعلمت العالم معنى الصمود ..
وكما كانت ستالينغراد بداية هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية .. فإن غزة هي بداية هزيمة الاحتلال وكل من يقف وراءه ..
غير أن اللافت للنظر هو ضعف الإعلام العربي والإسلامي ، وانشغال معظم المشتغلين فيه في قضايا جانبية ليست بحجم غزة ولا حجم ما قدمته غزة من تضحية وفداء واستشهاد .. وباستثناء بعض الأفلام الوثائقية ، والأفلام القصيرة مثل فيلم ” هند رجب ” الذي فضح أخلاق اليهود الصهاينة وإجرامهم وتعطشهم للدماء.. فإطلاق أكثر من 355 رصاصة على جسد طفلة صغيرة .. يمثل جريمة وحشية غير مسبوقة في تاريخ البشرية .
باستثناء هذا الفيلم فإن تغطية الإعلام العربي لجريمة الإبادة الجماعية التي ارتكبها الاحتلال في غزة ، ولا يزال يمارسها في فلسطين ، هي تغطية ضعيفة ، وحتى الإعلام الخاص ، وإعلام وسائل التواصل الاجتماعي لا يزال ضعيفا جدا ..
مما لا شك فيه أن فيلم هند رجب ، قد كسر الحواجز ، ووصل إلى المرتبة العالمية ، عندما عرض الصوت الأصلي لهند وهي تستغيث وتطلب النجدة من داخل سيارة بعد مقتل عائلتها بالكامل .. وكذلك عرض قتل المسعفين المدنيين الذين حاولوا إنقاذها ، كان له أثر كبير في كافة المحافل الإنسانية الدولية .
إن تجسيد هذه الجريمة الشنعاء على شكل فيلم ، وتسويق هذا الفيلم في مختلف المهرجانات العالمية ، وحصوله على جوائز عالمية ، هو عمل إعلامي متقدم في كشف وفضح المجرمين .. ومحاسبتهم ومعاقبتهم وتقديمهم إلى المحاكم الدولية ، والمحاكم المحلية في كل بلد حر ، قادر على مطاردتهم والقبض عليهم ومحاكمتهم ..
وإن وجود مؤسسة باسم هند رجب تتابع مقاضاة المجرمين يمثل عملا قانونيا متقدما ، خاصة بعد أن أظهر الفيلم الوثائقي ” ما خفي أعظم ” صور وأسماء الجنود الصهاينة الذين شاركوا في قتل هذه الطفلة البريئة .. بتلك الطريقة الوحشية .
إن حرب الإبادة في غزة قتلت أكثر من عشرين ألف طفل وطفلة مثل هند رجب ، وإن لكل طفل وطفلة من هؤلاء قصة كقصة هند رجب ، غير أن التقصير الإعلامي العربي والإسلامي ، لا يمكن تبريره بأي شكل من الأشكال .
آن الأوان للإعلاميين والأدباء وكتاب الروايات والقصص الدرامية والمخرجين والفنانين من أجل تجسيد عشرات بل مئات وآلاف الأفلام المشابهة لفيلم هند رجب .. ولا شك أن هذا العمل هو من أفضل الأعمال التي تفضح المجرمين الصهاينة وتدافع عن حق الشعب الفلسطيني في الحرية والمقاومة .
إن ما جرى في غزة ولا يزال يجري سوف يكون له ما بعده ، وكما تغير التاريخ بعد ستالينغراد ، لا بد أن يتغير التاريخ بعد غزة ، ولا بد أن تتحرر فلسطين ، ويعود الغزاة الغاصبين إلى بلدانهم ، ولا بد أن يسقط القناع عن كافة الداعمين والمتعاونين مع هذا الاحتلال .




