تقلبات الذهب وجائحة الكورونا ؟ أ.د كمال حطاب
03 February 2021تقلبات الذهب وجائحة الكورونا ؟
أ.د كمال حطاب
مما لا شك فيه أن الذهب هو النقد الحقيقي، وأنه مع الفضة يشكلان ما أطلق عليه الفقهاء قديما النقود الخلقية، أي أنها نقود بالفطرة أو بالخلقة، وقد اهتدى الإنسان إليها بعد أن جرب معادن أخرى عديدة، كالحديد، والنحاس، وغيرها كما أورد الدمشقى في كتابه الإشارة إلى محاسن التجارة ..
وليس معنى ذلك أن الذهب والفضة هما النقدان فقط ولا شيء غيرهما، فالنقد في الاجتهاد الفقهي مرجعه إلى العادة والاصطلاح وأساسه العدل، وبالتالي فإنه يجوز للناس في كل زمان ومكان أن يصطلحوا على أي شيء كوسيط للتبادل وكمعيار للقيم ويلقى قبولا عاما أن يكون نقدا رسميا.
غير أن المتتبع لتاريخ النقود سوف يجد أن حجم التقلبات في قيمة الذهب والفضة قليل نسبيا، مقارنة مع المعادن والسلع أو العملات الورقية .. فالذهب على مدار التاريخ هو الأكثر ثباتا، وهو الملجأ في الأزمات تاريخيا.
والناظر في العوامل المؤثرة في أسعار الذهب في الوقت الحاضر يجد أنه يتأثر بعوامل متعددة، لعل من أهمها المضاربات على الذهب وعلى العملات المختلفة، وخاصة الدولار، إضافة إلى الشائعات والعوامل التي تزيد من الاستقرار والثقة في الأسواق أو العكس ..
ففي حالات الأزمات والحروب والكوارث يلجأ الناس إلى الذهب بحثا عن الأمان، فيرتفع سعره ، وعندما تنتهي الأزمات يتخلص الناس منه فينخفض سعره .
وفي الوقت الحاضر وفي ظل تفاقم أزمة وباء الكورونا أو كوفيد19 عالميا، فإن الملاحظ أن أسعار الذهب قد ارتفعت ارتفاعات كبيرة غير مسبوقة تاريخيا في هذا العام .. حيث بلغ سعر أونصة الذهب في شهر تموز 2020 ما يقارب 2170 دولار ، وهو رقم قياسي غير مسبوق ، بعد أن كان بين 1300-1400 في بداية العام .
مما لا شك فيه أن القلق الذي اجتاح العالم نتيجة الكورونا، والانكماش الاقتصادي في معظم دول العالم نتيجة الإغلاق، وفقدان ملايين الوظائف، كل ذلك زاد من إقبال الناس على الذهب، كما أن خفض سعر الفائدة على الدولار إلى ما يقارب الصفر خفض من تكلفة الفرصة البديلة للاحتفاظ بالذهب ..
غير أن من أبرز وأهم العوامل التي زادت من أسعار الذهب، برامج التحفيز المالي أو التيسير الكمي التي أطلقتها معظم الدول المتقدمة، وخاصة الولايات المتحدة، حيث أصدر الاحتياطي الفيدرالي برنامج تحفيز بما يقارب 2 تريليون دولار. ودُفع مبلغ 600 دولار لأربعة شهور لكل مواطن أمريكي، كما دفع لأصحاب البنوك والشركات الكبرى مبالغ طائلة تعويضا عن خسائر الكورونا، إضافة إلى شراء السندات الحكومية والسندات المسمومة، كل تلك الإجراءات وغيرها، خفضت من قيمة الدولار، وزادت من أسعار الذهب بشكل كبير ….
وفي الوقت الحاضر تجري مفاوضات بين الكونجرس والاحتياطي الفيدرالي من أجل إطلاق برنامج تيسير كمي بما يقترب 2 تريليون دولار أخرى .. إلا أن هذه المفاوضات لا تزال مستمرة ، وعندما يصدر قرار الموافقة على إطلاق هذا البرنامج سوف ترتفع أسعار الذهب بشكل كبير، وربما يسجل سعره أرقاما قياسية جديدة لم تسبق في التاريخ .
من المؤكد أنه لا يمكن لأحد في هذا العالم التنبؤ بشكل يقيني حول أسعار الذهب، نظرا لتقلب العوامل المؤثرة في سلوك المضاربات على الذهب، خاصة بعد اتجاه كبار المضاربين إلى البتكوين ، حيث يجنون أرباحا فلكية وبوقت أسرع ، ومع ذلك وفي ضوء المؤشرات السابقة، فإن الأرجح هو الارتفاع الكبير لأسعار الذهب إذا تمت الموافقة على حزمة التحفيز أو التيسير الكمي الأمريكي الجديد .
مما لا شك فيه أن الظروف التي سادت منذ شهر فبراير 2020 والتي رافقت انتشار وباء الكورونا لا تزال قائمة في فبراير 2021، وأن القلق الذي غزا الأسواق، وحالة الانكماش الاقتصادي وبرامج التحفيز المالي لا تزال قائمة، بل إن القلق العالمي آخذ في الازدياد نتيجة ظهور سلالات جديدة من الفيروس المتحور ، وطفرات جديدة ، وربما فيروسات جديدة أشد فتكا ، ولذلك يتوقع الخبراء الموافقة على أكبر تحفيز كمي يقوم به الاحتياطي الفدرالي الأمريكي ، من أجل معالجة تداعيات الإغلاق الاقتصادي ، وهذا ما سوف يؤدي إلى رفع أسعار الذهب إلى مستويات غير مسبوقة تاريخيا.
إن هذا الكلام لا يعني بأية حال أنها توقعات حتمية، ولكنها أمور اجتهادية، قد تؤثر فيها عوامل كثيرة غير محسوبة ، فإذا نجحت اللقاحات في الحد من انتشار الكورونا ، وإذا عادت العلاقات الأمريكية الصينية إلى سابق عهدها ، وإذا تم رفع سعر الفائدة على الدولار ، فإن أي عامل من هذه العوامل سوف يؤثر على أسعار الذهب ، فإذا ما اجتمعت هذه العوامل جميعها ، فسوف ينخفض سعر الذهب بشكل قياسي ، ولكن هل يمكن أن تجتمع مثل هذه العوامل في وقت واحد ؟ لا شك أن ذلك يبدو صعبا جدا .