الأجر والضمان في عقود التبرعات أ.د كمال حطاب
30 September 2020الأجر والضمان في عقود التبرعات
أ.د كمال حطاب
يصف الفقهاء أحكام المعاملات بأنها معللة بتحقيق المصالح ودرء المفاسد بعكس أحكام العبادات التي توصف بأنها تعبدية ، ولذلك كانت الاجتهادات في أحكام المعاملات الفرعية تختلف من مكان إلى آخر ومن زمان إلى آخر ، وتدور مع المصلحة حيثما كانت .
ويبدو هذا الأمر جليا عند النظر في أحكام عقود التبرعات ، فقد اتفق جمهور الفقهاء على أن عقود التبرعات كالكفالة والوديعة والحوالة .. إلخ لا يجوز أخذ الأجر عليها ، ولا يضمن المتبرع ما يتلف في يده إذا كان التلف حاصلا دون تعد أو إهمال ، فهذه العقود هي عقود تبرعات محضة ، بمعنى أن الغرض الأساسي منها هو الثواب الأخروي ..
ولكن هذه العقود لم تعد كما كانت في العصور الماضية التي صنفها فيها الفقهاء ضمن عقود التبرعات ، فقد تغيرت طبيعة هذه العقود وخصائصها ومقتضياتها ، خاصة بعد استخدامها على نطاق واسع في المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية .
إن أقرب تطبيق لهذه العقود الثلاثة يتم من خلال الكفالة المصرفية والوديعة المصرفية والحوالة المصرفية ، وهذه العقود لها أحكام فقهية مغايرة تماما لاجتهادات الفقهاء السابقين ، نظرا لتغير خصائص العقود ومقتضياتها .
ولذلك ذهبت معظم جهات الفتوى إلى جواز أخذ الأجر على هذه العقود ، نظرا لما يترتب عليها من مصالح للطرفين ، فالمقاول لولا خطاب الضمان أو الكفالة المصرفية لحرم من الدخول في مناقصات ربما تعود عليه بالملايين ، ولذلك كان البنك مستحقا للأجر على جهوده في تنظيم هذه الكفالة ، وفي تنفيذها في حالة عدم وفاء العميل بما تعهد بأدائه . وكذلك الحوالة المصرفية حيث يقوم البنك بتنظيم عمليات التحويل المصرفي الداخلي والخارجي من خلال إجراءات واتفاقات مع فروع أخرى أو بنوك مراسلة ، وهذه بلا شك تتطلب جهودا تستحق الأجر بلا خلاف .
أما الوديعة المصرفية ، وخاصة الوديعة في الحساب الجاري فلا يزال الجدل الفقهي دائرا حول ماهيتها وهل هي قرض أم أمانة ؟ وبالرغم من صدور قرار مجمع الفقه الإسلامي الذي يعتبر الوديعة المصرفية في الحساب الجاري قرضا حسنا . إلا أن المسألة لا تزال محل اعتراض عدد كبير من الباحثين .
ومن العقود التي تقترب من عقود التبرعات ، ولكنها إلى المشاركات أقرب عقود المضاربة والإجارة المشتركة ، فقد اتفق الفقهاء على تضمين المضارب والأجير المشترك في حالة التعدي والتفريط ، واختلفوا فيما عدا ذلك .
لقد مثل الفقهاء قديما للأجير المشترك بالنجار والخياط والقصاب والصباغ .. ،وذهب فريق كبير منهم إلى عدم تضمينه ، لأنه لم يتعد أو يفرط في الأمانة ، أما في وقتنا الحاضر فلعل أصدق تمثيل للأجير المشترك هو شركات النقل مثل أرامكس وفدكس ودي إش إل وشركات الشحن المحلي والدولي ، وشركات الطيران وغيرها .
وكذلك المضارب المشترك ، فقد مثل له سابقا بشخص عامل يتعامل مع أكثر من رب مال في وقت واحد ، ينطبق عليه في وقتنا الحاضر حال المصارف الإسلامية وصناديق الاستثمار وشركات التأمين التكافلي وغيرها من المؤسسات المالية الإسلامية .
إن اتساع المعاني وتنوع النشاطات والتطور الاقتصادي للمجتمعات يستلزم المواكبة الفقهية التي تدعم تحقيق المصالح ودرء المفاسد.
إن عمل الأجير المشترك في الوقت الحاضر لم يعد يقتصر على أعمال بسيطة وإنما تعدى ذلك إلى شركات عملاقة متعددة الجنسية تتعهد بالضمان والتعويض ، من خلال آليات وأجهزة وشركات تأمين وعقود صيانة وضمان ، كلها تعمل جنبا إلى جنب من أجل المحافظة على معايير جودة الأداء والمهنية العالية التي تضمن سلامة التعاملات واستقرارها ..
وقد تمكنت الشركات الكبرى في الوقت الحاضر ومن خلال علوم الإحصاء والدراسات الاكتوارية من معرفة نسبة الخطر أو التلف أو الخسارة التي يمكن أن تتعرض لها والتعويضات التي يجب عليها أن تدفعها لسنوات قادمة بما يمكنها من الاستمرار في عملها وأداء واجباتها بمهنية تقترب من الكمال .
وبالتالي فإن معظم الأحكام الفقهية التي ذكرت حول عدم جواز تضمين المضارب المشترك أو الأجير المشترك قد لا تنطبق في الوقت الحاضر على أوضاع الشركات والمؤسسات والمعاملات القائمة ، حيث تتعهد معظم الشركات المعاصرة بالضمان ، ولولا تعهدها بالضمان لما تعامل معها أحد ، فالكل يحرص على ماله من الضياع ، ومن حق الناس أن تكون أموالهم مصانة محفوظة .. كما أن التزام هذه المؤسسات بالضمان يزيد من كفاءتها وحرصها على أموال الناس ، وفي نفس الوقت يقلل خسائرها إلى أدنى درجة ممكنة من خلال التأمين ومراعاة المخاطر المحتملة .
وبناء على ما تقدم وفي ضوء الظروف والتطورات المعاصرة ، فإن الرأي القائل بتضمين المضارب المشترك والأجير المشترك هو الأولى بالقبول في ظل الظروف المعاصرة والأمثلة المذكورة وما يقاس عليها .
ومع ذلك ونظرا لأن الأمثلة المعاصرة لا يمكن حصرها بالنسبة للأجير المشترك ، فلا بد من عرض الأمر على القضاء في المسائل الكبيرة التي يترتب عليها أضرار كبيرة ، كالإهمال الطبي أو الإهمال في نقل الأشخاص بالطائرات أو القطارات أو غيرها من وسائل المواصلات .
إن النية وسلطان الإرادة لا يمكن صرفهما من قصد إلى آخر دون قرينة واضحة ، فعندما يقصد أحد الأطراف أن يكون متبرعا فلا يصح أن يصرف قصده إلى قصد آخر دون قرينة أو إرادة واضحة منه ، وكذلك الحال عندما لا يقصد أحد الأشخاص أن يكون متبرعا فلا يصح أن يعامل كمتبرع رغما عنه ، وبالتالي حرمانه من الأجرة بذريعة التبرع ما دام لم يقصد التبرع ولا يوجد أي قرينة تفيد التبرع .
إن نظرية العقد في الشريعة الإسلامية ، حرصت على تحقق كمال الأهلية في العقود ، من أجل تحقق كمال الرضا بين المتعاقدين ، ولذلك لا يصح تكليف أحد المتعاقدين بأي شيء خارج عن بنود العقد وليس من مقتضياته بأي شكل من الأشكال .