عودة إلى الصفحة الرئيسية

” حرم دنانيرهم ” أ.د كمال حطاب

31 October 2020

” حرم دنانيرهم ”
أ.د كمال حطاب
تروي كتب التاريخ الإسلامي ، أن ملك الروم بعث إلى عبد الملك بن مروان خليفة المسلمين في عام 76هــــ ، رسالة ، هدده فيها بكتابة ما يسيء إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم على الدنانير الرومية ، ومن المعلوم أن الدنانير الذهبية في ذلك الوقت كانت تضرب في بلاد الروم ، ومع مجيء الإسلام أقر النبي صلى الله عليه وسلم التعامل بهذه الدنانير ، وكذلك فعل الخلفاء من بعده إلى عهد عبد الملك بن مروان .
اغتم عبد الملك بن مروان ، واستشار الناس ، فأشاروا عليه ” حرم دنانيرهم ” يعني إعادة صهر هذه الدنانير ، وضرب النقود الإسلامية ، وقد تم ذلك على الفور ، حيث ضبطت السكة وأعيد ضرب النقود في دور ضرب إسلامية ، وجاءت النقود الإسلامية الجديدة أكثر نقاء وأضبط عيارا ، وعلى الوزن الشرعي الذي حدده النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال ” الوزن وزن أهل مكة ، والمكيال مكيال أهل المدينة ” .
“حرم دنانيرهم” .. لا مجال للتفاوض في مثل هذه الأمور .. الإساءة إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم خط أحمر في حياة المسلمين على مر العصور ، ولا يمكن السماح لأحد أن يقوم بهذا الفعل ، تحت أية حجة أو ذريعة .
ويبدو أن هذه الإساءة لم تتوقف في حياته صلى الله عليه وسلم ، ولن تتوقف إلى قيام الساعة ، لقوله تعالى ” وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ” ( البقرة ، 120) ولقوله تعالى ” وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ” ( البقرة ،109 ) .
إن المسلمين في هذا العصر رغم ضعفهم وما أصيبوا به من تفكك وانقسام ، تجمعهم محبة رسول الله وتوحدهم وتقويهم وتزيدهم قوة وعزيمة للاتحاد والتضامن للذود عن عرضه صلى الله عليه وسلم .
إن المسلمين في هذا الزمان وقد اقترب عددهم من المليارين ، يمتلكون قوة عددية لا يستهان بها ، وهي تمثل أكبر قوة استهلاكية في العالم ، وبالرغم من سلبية الاستهلاك مقارنة بالإنتاج ، إلا أننا يمكن أن نستفيد من هذه القوة الاستهلاكية وذلك من خلال تفعيل سلاح المقاطعة السلمي لمنتجات كل من يسيء إلى ثوابتنا وديننا وقرآننا ونبينا ، وهو أمر واجب شرعا وقانونا وعقلا وخلقا وإنسانية .
إن الكثير من الحكومات والدول الإسلامية قد تمنعها السياسة ولغة المصالح أن تصرح بالمقاطعة ، ولكن الشعوب يمكنها أن تقوم بالمقاطعة دون مؤاخذة من أحد ، فهي حرية شخصية للفرد في أن يشتري هذه السلعة أو تلك ، أن يأكل هذا الطعام أو لا يأكله ، ولا يمكن لأحد أن يعترض على هذا الاختيار الشخصي .
” حرم دنانيرهم ” يستطيع المسلمون في الوقت الحاضر مقاطعة ” اليورو ” ولو فعلوا ذلك لكبدوا الاقتصاد الأوروبي خسائر فادحة ، كما يستطيعون تحويل حساباتهم من اليورو إلى أية عملة أخرى ، وكذلك الأسهم وغيرها من الأوراق المالية الأوروبية ردا على الإساءات التي يقومون بها بحق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وثوابتنا الإسلامية .
ينبغي أن تضع الشعوب خطوطا حمراء ، ومن خلال جمعيات حماية المستهلك أو اتحاد جمعيات حماية المستهلك على مستوى الدول العربية أو الإسلامية ، أو حتى من خلال وسائل التواصل الاجتماعي ، ولغة الهاشتاجات ، وغيرها من أدوات التواصل الاجتماعي ، بحيث تتم مقاطعة كل من أساء لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم أو لقرآننا أو أي من ثوابت ديننا التي لا يمكن أن نعطي الدنية فيها .
ينبغي أن يوجد ميثاق بين هذه الشعوب على أن يتم تفعيل المقاطعة كلما تجرأ حاقد أو حاسد على الإسلام وأهله ، بحيث يحسبوا للمسلمين ألف حساب ، ويراجعوا حساباتهم وخسائرهم ، قبل أن يقدموا على أي خطوة إساءة غبية حاقدة . ” وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا” ( الإسراء ، 8 )

إعادة ضبط العولمة وسلاح المقاطعة أ.د كمال حطاب

23 October 2020

إعادة ضبط العولمة وسلاح المقاطعة
أ.د كمال حطاب
منذ ظهر مصطلح العولمة في التسعينات من القرن الماضي ، والدعوات إلى ضبطها وتخفيف حدتها وتقليل توحشها لم تتوقف ، فها هو كلاوس شواب مؤسس منتدى دافوس يدعو في أكثر من اجتماع من منتديات دافوس إلى أنسنة العولمة أو العولمة المسؤولة .. بمعنى أن تكون قوى العولمة أو أصحاب الشركات العالمية الكبرى بما فيها المنظمات الدولية ، أكثر إنسانية ورحمة ورفقا بالآخرين وبالبيئة ، وبالكائنات الحية الموجودة على هذا الكوكب .
وكان جورج سوروس الملياردير العالمي الشهير، المتهم بإحداث أزمة نمور آسيا ، قد دعا إلى إصلاح النظام الرأسمالي في كتابه أزمة الرأسمالية العالمية ، بقوله لا بد ” أن نصحح وننظم قوى الأسواق المالية العالمية عن طريق عمل عالمي .. إن هناك حاجة ملحة بإعادة التفكير وإصلاح النظام الرأسمالي العالمي.. ”
وتبنى هذه الدعوة عدد كبير من المفكرين الغربيين ، خاصة في أعقاب الأزمة المالية العالمية 2008 .. مثل توماس فريدمان ، وفرانسيس فوكوياما ، وغيرهم ، ومع ذلك فإن العولمة قد ازدادت توحشا وهيمنة ، واتسعت الفجوة بشكل كبير بين الأغنياء والفقراء ، فزادت الحروب وأعداد الضحايا من القتلى والجرحى ، وازدهرت تجارة الأسلحة والعقاقير الطبية ..
غير أن الدعوة إلى إعادة ضبط العولمة في الوقت الحاضر ، ربما تجد لها مبررا ، خاصة في ظل انتشار فيروس الكورونا الذي ضرب كافة مرافق الاقتصاد العالمي وخاصة الشركات الكبرى وبالتالي فقد آن الأوان لهذه الشركات أن تعيد حساباتها وأن تحد من غلوائها وتوحشها ، آن الأوان لكي تكون أكثر إنسانية في زمن الوباء الذي لا يكاد ينجو منه أحد . ولكن هل ستستجيب قوى العولمة لمثل هذه الدعوات ؟
يبدو أن ذلك صعب جدا بل يكاد يكون مستحيلا ، فلا تزال قوى العولمة من شركات وأجهزة ومنظمات دولية تمارس إجراءات تعسفية ظالمة بحق الدول والشعوب الأكثر فقرا ، بل إن الدول القوية يمكن أن تمارس القرصنة على الدول الأقل منها قوة كما حدث من عمليات قرصنة واستيلاء بعض الدول على مستلزمات طبية كانت متجهة لدول أخرى غيرها ، وكما تحاول شركات كبرى للأدوية التسابق لإنتاج أو ترويج لقاحات ليست لها علاقة بالأمراض الموصوفة للوقاية منها .
بل إن أبشع العمليات الحربية لا تزال تشن على بعض الدول والشعوب فتقتل مئات الأبرياء بدعم من الدول الصناعية ، ومبيعات الأسلحة لم تتوقف عن دعم الأطراف المتحاربة .
أما من جهة المنظمات الدولية المنبثقة عن الأمم المتحدة كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير ومنظمة التجارة العالمية وغيرها من مؤسسات التمويل الدولية ، فمما لا شك فيه أن معيار تأسيس المنظمات الدولية كان هو معيار القوة ، فالدول الأكثر قوة والتي خرجت منتصرة من الحرب العالمية الثانية هي التي فرضت شروطها وحظيت ولا تزال بأعلى قوة تصويت في القرارات التي تصدر عن المنظمات الدولية كصندوق النقد الدولي وغيره من الأجهزة المنبثقة عن الأمم المتحدة .. فهل يمكن أن تتوافق الدول ومن خلال هذه المنظمات الدولية على معايير جديدة كالعدالة والشفافية والإنسانية أو احترام حقوق الإنسان ، والمحافظة على البيئة .. إلخ ؟ وما الذي سوف يحمي تطبيق هذه المعايير ؟ وهل يمكن أن تتنازل دول الفيتو عن هذا الحق مثلا ؟
يبدو جليا أن إيجاد مثل هذه المنظمات الدولية يعد ضربا من الخيال ، فما الذي سيدفع دول كبيرة قوية إلى التنازل عن مكانتها لمصلحة دول فقيرة ضعيفة ؟
يبدو أن الحل الوحيد الذي يمكن أن يخفف من غلواء العولمة وشركاتها ومنظماتها ، هو في التحالفات ، تحالف الدول الفقيرة ، تحالف الضعفاء يزيدهم قوة ، تحالف الدول الإسلامية ، ولكن كيف يتم ذلك ؟
إن هذا الحل يمكن أن يكون على مستوى الحكومات والشعوب ، فحكومات الدول الإسلامية يمكن أن تدخل في تحالفات بما يخفف عنها عبء استغلالها من قبل الدول المتقدمة ، ويمكن أن يتم ذلك من خلال إعادة تفعيل الاتفاقيات التكاملية بين الدول الإسلامية ، وإذا لم يكن ممكنا ، فيمكن البدء بتحالف دولتين أو ثلاثة أو أربعة أو على مستوى الدول الخليجية أو العربية ، أو على المستوى الجغرافي الآسيوي أو الإفريقي .. إلخ ، ومن خلال اتفاقيات اتحادات المدفوعات أو المقاصة ، وتجميع الاحتياطيات ، والتنسيق النقدي بكافة أشكاله .. إلخ .
ويبقى الدور الأكبر المنتظر هو دور الشعوب . فلا بد أن تقوم الشعوب بدورها ، والذي يمكن أن ينجح بقوة في إخضاع قوى العولمة للعدالة والنزاهة والأخلاق ، ولكن ما هو هذا الدور الذي يمكن أن تقوم به الشعوب ؟ وكيف يتم ذلك ؟ ، ببساطة، يتمثل هذا الدور في سلاح الصوم أو المقاطعة ، أو بمعنى آخر سلاح الصوم عن تلبية الاحتياجات من قبل أي شركة أو دولة تدعم الظلم والظالمين .. وقد نجح هذا السلاح في الماضي في تحقيق الاستقلال والسلام في الهند عندما قام به غاندي وأتباعه ، كما نجح في فترات عديدة عندما طبقه الماليزيون ضد بعض الشركات الأجنبية الظالمة ، كما نجح عندما طبقه المسلمون ضد الشركات الهولندية المؤيدة للإساءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكما سينجح في الوقت الحاضر بعد حملة مقاطعة منتجات الشركات الفرنسية التي ترضى بالإساءة لنبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم .
إن عدم اللجوء إلى هذا السلاح السلمي يعني أن قوى العولمة المتوحشة والمسيئة إلى البشرية ، ستبقى تمارس الطغيان والظلم والتغول على الشعوب ولن يقف في طريقها أحد من البشر .
إن إعادة ضبط العولمة تتطلب إعادة ضبط الشعوب لأوضاعها من خلال اختيار نمط استهلاكها بما يخدم مصالحها ويتفق مع قيمها ويدعم ويعزز كل معاني الخير والحق والرحمة والإنسانية . ولذلك كان قول الله تعالى ” إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ” (الرعد:11)

متى يمكن للدول العربية أن تقول لا ؟ أ.د كمال حطاب [email protected]

15 October 2020

متى يمكن للدول العربية أن تقول لا ؟
أ.د كمال حطاب
في التسعينات ألف مهاتير محمد باني نهضة ماليزيا كتابا بعنوان ” آسيا التي تستطيع أن تقول لا ” وبالفعل طبق مهاتير محتوى هذا الكتاب عمليا عندما رفض توصيات صندوق النقد الدولي ، وقرر الاعتماد على نفسه وحكومته وشعبه ، ووضع تعليمات صارمة ضد خروح العملات الأجنبية، بعد أن خرجت الاستثمارات الأجنبية من ماليزيا ، وتعاون شعبه معه في المحافظة على العملات الأجنبية وعدم إخراجها إلا للضرورة القصوى . ونجح مهاتير في المحافظة على قيمة العملة من الانهيار .. وأشاد صندوق النقد الدولي بنجاحه بعد عدة سنوات .
هل يمكن للدول العربية المدينة أن تقول لا لصندوق النقد الدولي وغيره من المؤسسات المالية الدولية ؟ متى يمكن لأصحاب الملايين أو المليارات العرب أن يعيدوا أموالهم وما يمتلكونه من عملات أجنبية إلى بلدانهم .. متى يمكن لقوانين الاستثمار في الدول العربية أن تكون آمنة مشجعة لأصحاب رؤوس الأموال العرب قبل غيرهم ، للعودة للاستثمار في بلدانهم .
إن أسهل طريقة اعتادت عليها معظم الحكومات المدينة ، من أجل سد العجز وتمويل الإنفاق هي زيادة الاستدانة أولا والضرائب ثانيا .. والعمل بكل قوة من أجل جدولة الديون مهما كانت الشروط ومهما تضاعفت الفوائد .. وهكذا عندما تنجح أي حكومة في جدولة الديون تعتبر نفسها قد قامت بما لم تستطعه الأوائل .
إن معظم الحكومات المدينة تعتمد هذا الأسلوب الذي يزيد في المديونية العامة للدولة والشعب ، ويزيد في الأقساط والفوائد المترتبة على هذه الديون .
فمتى يمكن أن تأتي حكومات تغير من هذه الأساليب ؟ هل يمكن أن تأتي حكومات تعتمد على نفسها وتعزز الثقة مع شعوبها بما يزيد من تدفق رؤوس الأموال العربية والأجنبية ؟ هل يمكن أن تأتي حكومات تعمل بكفاءة وإخلاص وشفافية ونزاهة على تشجيع الاستثمار الوطني .
هل يمكن أن تأتي حكومة تكون مثالا يحتذى للشعوب بالوطنية الحقيقية القائمة على التضحية والإيثار والعدالة ؟ وتقوم بإشهار الذمة المالية لجميع المسؤولين ، والمطالبة بأموال الفاسدين المهربة إلى الخارج ، هل يمكن أن توجد حكومات يتجرد أعضاؤها عن المتطلبات الشخصية من مزايا ومياومات وانتدابات ..
هل يمكن أن يأتي يوم يزهد الناس فيه بمنصب الوزير ؟ لأنه لا يحقق مزايا أو مكاسب لصاحبه ؟ هل يمكن أن يزهد النواب في الترشح نظرا لانعدام المزايا والمكتسبات ؟ متى يمكن أن تنتقل هذه الوظائف والمناصب من مناصب تشريفية إلى مناصب تكليفية ؟ وتكون أعباؤها أكبر بكثير من مكاسبها ؟ ويوصف من يشغلها بأنه قد باع نفسه ووقته وحياته لله ثم للشعب ..
عندما يوجد مثل هؤلاء ، وعندما توجد فئة من المسؤولين ، مستعدة للتضحية والعطاء في سبيل البلد وفي سبيل خدمة الشعب .. عندها يمكن أن تكون الدولة قوية عزيزة ، لأنها تعتمد على نفسها وعلى شعبها ، وعندها فقط يمكن أن تقول لصندوق النقد الدولي لا وألف لا ، كما فعلت ماليزيا ذات يوم .

أموال الهيلوكوبتر والدول العربية أ.د كمال حطاب [email protected]

14 October 2020

أموال الهيلوكوبتر والدول العربية
أ.د كمال حطاب
اقترح ميلتون فريدمان الاقتصادي الأمريكي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد أن يتم إلقاء النقود من خلال طائرة الهيلوكبتر على الناس ، وذلك في أوقات الأزمات ، وأشاد بهذا الاقتراح لاحقا بن برنانكي مدير الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الأسبق . فهل كان فريدمان جادا في هذا الاقتراح أم أن الأمر كان على سبيل التمثيل والتبسيط ؟
يبدو أن فريدمان كان يحاول تبسيط فكرة أثر النقود على التضخم ، ولكن برنانكي والسياسيين من بعده لم يكونوا كذلك حيث وجدوا في هذه الفكرة حلا لمشكلات الانكماش الاقتصادي .
أطلق لاحقا على أموال الهيلوكوبتر ” التيسر الكمي ” ، لأن أوجه الشبه بينهما كبيرة ، حيث يستطيع الاحتياطي الفيدرالي أن يصدر من العملة ما شاء وبلا حدود ، هذا ما أعلنه مدير الاحتياطي الفيدرالي فرع مينابوليس نيل كاشكاري في برنامج ستون دقيقة بتاريخ 27-3-2020 عندما قال بأن الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي يتمتع بسلطة غير محدودة لتوليد النقد بكميات غير محدودة ، “فلا نهاية لقدرتنا على طباعة النقود ، والأمر ببساطة أن لدينا موافقة وطلب من الكونغرس لفعل ذلك ”
من بدهيات الأدب النقدي أن زيادة النقود إذا لم يصاحبها زيادة في الإنتاج فإن هذه الزيادة في كمية النقود ستتحول إلى ارتفاع في الأسعار وزيادة في التضخم .. ولكن المشاهد عالميا أن الولايات المتحدة قد زادت في طباعة الدولار منذ 2008 إلى 2020 حوالي 7 تريليون دولار ، ومع ذلك بقي التضخم قريبا من 2% خلال هذه الفترة ، فما هو السر وراء ذلك ..
إن طباعة الدولار ليست لاستخدامه داخل أمريكا فقط ، وبالتالي فإن هذه العملة تجوب العالم بحثا عن الثروات
المعدنية والنفطية والذهب وكافة أشكال السلع والخدمات ، فجميع أسواق العالم هي سوق للدولار .
هل يمكن للدول العربية أن تطبع من العملة ما تشاء ؟ وما الذي يمنعها من فعل ذلك ؟ ولماذا يمكن للبنوك المركزية في أمريكا وأوروبا واليابان والصين وبقية الدول المتقدمة أن تفعل ذلك ؟ ولا يمكن للدول العربية ؟
إن الدول السبعة العظام كما يطلق عليها G7 لديها اتفاقات نقدية ، تستطيع التنسيق فيما بينها في هذا المجال بما يضمن استمرار الاستقرار النقدي العالمي ، وبما يضمن استمرارية بقاء العملات الصعبة ، العملات الأقوى والقابلة للتحويل من قبل جميع الدول .
ومن جهة أخرى فإن هذه الدول هي الدول صاحبة الحصص الكبرى في صندوق النقد الدولي ، وهذا يعني أنها القادرة على التصويت واتخاذ القرارات التي تصدر عن الصندوق ..
ومن المعلوم أن من أهم مهام صندوق النقد الدولي مراقبة أسعار صرف العملات ، وتنظيم الاتفاقيات والقواعد الخاصة بأسعار صرف العملات وتسيير المدفوعات الدولية .
ومن جهة ثالثة فإن هذه الدول تقوم بالإصدار بعد الحصول على موافقة البرلمان أو الكونغرس كما في أمريكا وفي ظل سيادة الحوكمة والشفافية والإفصاح ، وتحت مراقبة وسائل الإعلام .
أما في حالة الدول العربية فليس لديها أي اتفاقات نقدية فيما بينها ، ولا يمكن لأي دولة منفردة أن تفعل ذلك إلا إذا أرادت لعملتها أن تتدهور قيمتها إلى ما لا نهاية .. كما أنها ضعيفة جدا من حيث الحصة وقوة التصويت في صندوق النقد الدولي ، وبالتالي فلا تأثير لها على اتخاذ القرار في هذا الصندوق ، ولذلك لا بد من موافقة صندوق النقد الدولي قبل التفكير بالقيام بمثل هذه الخطوة .
يمكن للدول العربية أو الإسلامية أن تفعل ذلك في حالة تفعيل الاتفاقيات الاقتصادية الموحدة العربية أو الإسلامية ، ويمكن لها أن تعمل على إطلاق الدينار العربي الموحد أو العملة الإسلامية الموحدة .
يمكن لهذه الدول أن تفعل ذلك إذا ما اتفقت على زيادة قوتها التفاوضية والتصويتية في المنظمات الدولية كالأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي ..
وبغير ذلك فستبقى عملات هذه الدول تابعة لعملات الدول المتقدمة ، وستبقى قيمها تتقلب وتتدهور تحت أدنى أزمة مالية واقتصادية .

الأجر والضمان في عقود التبرعات أ.د كمال حطاب

30 September 2020

الأجر والضمان في عقود التبرعات
أ.د كمال حطاب
يصف الفقهاء أحكام المعاملات بأنها معللة بتحقيق المصالح ودرء المفاسد بعكس أحكام العبادات التي توصف بأنها تعبدية ، ولذلك كانت الاجتهادات في أحكام المعاملات الفرعية تختلف من مكان إلى آخر ومن زمان إلى آخر ، وتدور مع المصلحة حيثما كانت .
ويبدو هذا الأمر جليا عند النظر في أحكام عقود التبرعات ، فقد اتفق جمهور الفقهاء على أن عقود التبرعات كالكفالة والوديعة والحوالة .. إلخ لا يجوز أخذ الأجر عليها ، ولا يضمن المتبرع ما يتلف في يده إذا كان التلف حاصلا دون تعد أو إهمال ، فهذه العقود هي عقود تبرعات محضة ، بمعنى أن الغرض الأساسي منها هو الثواب الأخروي ..
ولكن هذه العقود لم تعد كما كانت في العصور الماضية التي صنفها فيها الفقهاء ضمن عقود التبرعات ، فقد تغيرت طبيعة هذه العقود وخصائصها ومقتضياتها ، خاصة بعد استخدامها على نطاق واسع في المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية .
إن أقرب تطبيق لهذه العقود الثلاثة يتم من خلال الكفالة المصرفية والوديعة المصرفية والحوالة المصرفية ، وهذه العقود لها أحكام فقهية مغايرة تماما لاجتهادات الفقهاء السابقين ، نظرا لتغير خصائص العقود ومقتضياتها .
ولذلك ذهبت معظم جهات الفتوى إلى جواز أخذ الأجر على هذه العقود ، نظرا لما يترتب عليها من مصالح للطرفين ، فالمقاول لولا خطاب الضمان أو الكفالة المصرفية لحرم من الدخول في مناقصات ربما تعود عليه بالملايين ، ولذلك كان البنك مستحقا للأجر على جهوده في تنظيم هذه الكفالة ، وفي تنفيذها في حالة عدم وفاء العميل بما تعهد بأدائه . وكذلك الحوالة المصرفية حيث يقوم البنك بتنظيم عمليات التحويل المصرفي الداخلي والخارجي من خلال إجراءات واتفاقات مع فروع أخرى أو بنوك مراسلة ، وهذه بلا شك تتطلب جهودا تستحق الأجر بلا خلاف .
أما الوديعة المصرفية ، وخاصة الوديعة في الحساب الجاري فلا يزال الجدل الفقهي دائرا حول ماهيتها وهل هي قرض أم أمانة ؟ وبالرغم من صدور قرار مجمع الفقه الإسلامي الذي يعتبر الوديعة المصرفية في الحساب الجاري قرضا حسنا . إلا أن المسألة لا تزال محل اعتراض عدد كبير من الباحثين .
ومن العقود التي تقترب من عقود التبرعات ، ولكنها إلى المشاركات أقرب عقود المضاربة والإجارة المشتركة ، فقد اتفق الفقهاء على تضمين المضارب والأجير المشترك في حالة التعدي والتفريط ، واختلفوا فيما عدا ذلك .
لقد مثل الفقهاء قديما للأجير المشترك بالنجار والخياط والقصاب والصباغ .. ،وذهب فريق كبير منهم إلى عدم تضمينه ، لأنه لم يتعد أو يفرط في الأمانة ، أما في وقتنا الحاضر فلعل أصدق تمثيل للأجير المشترك هو شركات النقل مثل أرامكس وفدكس ودي إش إل وشركات الشحن المحلي والدولي ، وشركات الطيران وغيرها .
وكذلك المضارب المشترك ، فقد مثل له سابقا بشخص عامل يتعامل مع أكثر من رب مال في وقت واحد ، ينطبق عليه في وقتنا الحاضر حال المصارف الإسلامية وصناديق الاستثمار وشركات التأمين التكافلي وغيرها من المؤسسات المالية الإسلامية .
إن اتساع المعاني وتنوع النشاطات والتطور الاقتصادي للمجتمعات يستلزم المواكبة الفقهية التي تدعم تحقيق المصالح ودرء المفاسد.
إن عمل الأجير المشترك في الوقت الحاضر لم يعد يقتصر على أعمال بسيطة وإنما تعدى ذلك إلى شركات عملاقة متعددة الجنسية تتعهد بالضمان والتعويض ، من خلال آليات وأجهزة وشركات تأمين وعقود صيانة وضمان ، كلها تعمل جنبا إلى جنب من أجل المحافظة على معايير جودة الأداء والمهنية العالية التي تضمن سلامة التعاملات واستقرارها ..
وقد تمكنت الشركات الكبرى في الوقت الحاضر ومن خلال علوم الإحصاء والدراسات الاكتوارية من معرفة نسبة الخطر أو التلف أو الخسارة التي يمكن أن تتعرض لها والتعويضات التي يجب عليها أن تدفعها لسنوات قادمة بما يمكنها من الاستمرار في عملها وأداء واجباتها بمهنية تقترب من الكمال .

وبالتالي فإن معظم الأحكام الفقهية التي ذكرت حول عدم جواز تضمين المضارب المشترك أو الأجير المشترك قد لا تنطبق في الوقت الحاضر على أوضاع الشركات والمؤسسات والمعاملات القائمة ، حيث تتعهد معظم الشركات المعاصرة بالضمان ، ولولا تعهدها بالضمان لما تعامل معها أحد ، فالكل يحرص على ماله من الضياع ، ومن حق الناس أن تكون أموالهم مصانة محفوظة .. كما أن التزام هذه المؤسسات بالضمان يزيد من كفاءتها وحرصها على أموال الناس ، وفي نفس الوقت يقلل خسائرها إلى أدنى درجة ممكنة من خلال التأمين ومراعاة المخاطر المحتملة .
وبناء على ما تقدم وفي ضوء الظروف والتطورات المعاصرة ، فإن الرأي القائل بتضمين المضارب المشترك والأجير المشترك هو الأولى بالقبول في ظل الظروف المعاصرة والأمثلة المذكورة وما يقاس عليها .
ومع ذلك ونظرا لأن الأمثلة المعاصرة لا يمكن حصرها بالنسبة للأجير المشترك ، فلا بد من عرض الأمر على القضاء في المسائل الكبيرة التي يترتب عليها أضرار كبيرة ، كالإهمال الطبي أو الإهمال في نقل الأشخاص بالطائرات أو القطارات أو غيرها من وسائل المواصلات .
إن النية وسلطان الإرادة لا يمكن صرفهما من قصد إلى آخر دون قرينة واضحة ، فعندما يقصد أحد الأطراف أن يكون متبرعا فلا يصح أن يصرف قصده إلى قصد آخر دون قرينة أو إرادة واضحة منه ، وكذلك الحال عندما لا يقصد أحد الأشخاص أن يكون متبرعا فلا يصح أن يعامل كمتبرع رغما عنه ، وبالتالي حرمانه من الأجرة بذريعة التبرع ما دام لم يقصد التبرع ولا يوجد أي قرينة تفيد التبرع .
إن نظرية العقد في الشريعة الإسلامية ، حرصت على تحقق كمال الأهلية في العقود ، من أجل تحقق كمال الرضا بين المتعاقدين ، ولذلك لا يصح تكليف أحد المتعاقدين بأي شيء خارج عن بنود العقد وليس من مقتضياته بأي شكل من الأشكال .

All Rights Reserved © www.KamalHattab.info  |  [email protected]