عودة إلى الصفحة الرئيسية

الدراجات وعجلة الاقتصاد في ماليزيا.. أ.د كمال حطاب

16 October 2022

في صبيحة كل يوم وقبل شروق الشمس يتجه آلاف الموظفين والعاملين في البنوك والمؤسسات والدوائر الحكومية والخاصة من كافة الضواحي باتجاه كوالالمبور العاصمة يقودون دراجاتهم يسابقون الريح .
وما هي إلا دقائق حتى يصل كل منهم إلى عمله متجنبا زحمة السير التي تشتهر بها مدينة كوالالمبور في كل صباح ومساء ، وهم بذلك يختصرون الوقت والجهد والتكلفة .
ومما يلفت النظر أن العدد الأكبر من سائقي الدراجات في ماليزيا هم من الإناث ، مما يدل على درجة أمان وسلامة عالية جدا . ويستحيل أن تجد في ماليزيا سائق دراجة لا يرتدي خوذة الرأس الخاصة بسائقي الدراجات .
وتنتشر قيادة الدراجات في ماليزيا بشكل كبير ولا تكاد تستثني فئة من الشعب من قيادة الدراجات ، ويبدو أنها هواية لدى البعض إضافة إلى كونها وسيلة رخيصة وسريعة للوصول إلى أماكن العمل ، بالرغم من وجود مختلف أشكال القطارات المعلقة والمترو والكهربائية وغيرها .
ومن جهة أخرى فإن هناك عناية فائقة في أدوات وأجهزة السلامة المتعلقة بقيادة الدراجات ، خاصة خوذات الرأس ، حيث تقوم جهات ومراكز علمية حكومية مثل ( سيريم ) باختبارات الجودة المتكررة لكافة الصناعات والمنتجات ، ومنها لخوذات الرأس بحيث تضمن سلامتها وعدم قابليتها للكسر ، من خلال تعريضها لصدمات عنيفة جدا .
كيف سمحت ماليزيا بقيادة الدراجات ؟ ولماذا تنعدم ظاهرة قيادة الدراجات في الكثير من الدول العربية ؟ يبدو أن الطبيعة الجغرافية للمدن العربية إضافة إلى مساحات الطرق وتنظيمها وطبيعة أعراف الناس كلها عوامل تؤثر في سلوكيات الشعوب نحو الدراجات أو غير ذلك .
فبعض الشعوب العربية قد لا تعتبر الدراجة مظهر رفاهية ، إضافة إلى السلوك القلق والمتوتر عند معظم الشعوب العربية مقارنة بالشعب الماليزي الذي يمتاز بالهدوء والبساطة في الغالب ، وبالتالي فإن الدراجة لا تعد عيبا أو نقصا بقدر ما تعد وسيلة لتسهيل الانتقال إلى أماكن العمل بأقل جهد وتكلفة .
هل من المصلحة بشكل عام السماح بقيادة الدراجات في الدول العربية ؟
يبدو أن قيادة الدراجات في معظم الدول العربية ترتبط بعوامل أمنية قبل عوامل السلامة ، وبالتالي فلا بد لها من الموافقات الأمنية قبل رخصة القيادة ، غير أن انتشار تطبيقات التوصيل أو “الدلفري” واعتياد معظم الناس على تطبيقات التوصيل المنزلي بعد انتشار وباء الكورونا زاد من ظهور الدراجات في الشوارع شيئا فشيئا ، مما أوجد فرص عمل جديدة ، وساعد في زيادة الاستهلاك ، وبالتالي زيادة الإنتاج وتحسين مستوى المعيشة .
إن الدراجات هي أشبه بمسننات الآلات ، فبقدر ما تدور وتشتغل ، سوف تدور عجلة الاقتصاد ، ويزداد الإنتاج ، ويتحقق الازدهار الاقتصادي ، فإذا ما توقفت ولم يكن لها بديل ، فسوف يتوقف الإنتاج ويحدث الانكماش ، وبالتالي يمكن أن يحدث الكساد الاقتصادي .
إن مصلحة أي اقتصاد وجود الوسائل السريعة لنقل السلع والخدمات ، فبقدر ما تكون هذه الوسائل سريعة وسهلة وأقل تكلفة ، بقدر ما تزدهر صناعة هذه السلع ويزداد الإنتاج والتشغيل ويتحقق التقدم الاقتصادي ، ويحدث العكس في حالة الوسائل البطيئة أو وجود العقبات والعراقيل أو انعدام هذه الوسائل .
هل يمكن أن تنتشر ظاهرة الدراجات في الدول العربية في غير التوصيل المنزلي ، بحيث تتكاثر أعداد الدراجات مقارنة بالسيارات ؟ يبدو أن الأمر ليس سهلا ، لأن ذلك يتطلب تغيير ثقافة المجتمع .. إضافة إلى استحضار ضوابط وتشريعات خاصة بهذه الوسيلة ، من أجل المحافظة على معايير سلامة متقدمة ، وقبل ذلك لا بد من وجود مؤسسة مواصفات ومقاييس خاصة بهذه الدراجات أشبه بمعهد البحوث القياسية والصناعية في ماليزيا ( سيريم ) ، من أجل ضمان التأكد من جودة الدراجات وملاءمتها للبيئة الجغرافية وطبيعة الطرقات ومدى وجود مسارب خاصة بالدراجات .. إلخ

هل يمكن إيجاد عملة إسلامية موحدة ؟ .. أ.د كمال حطاب

20 September 2022

إن ضعف وتفكك وانقسام معظم دول العالم ومنها الدول الإسلامية ، مقارنة بأمريكا ، يجعلها عاجزة عن الاتفاق على إصدار عملة موحدة بديلة للدولار ، وبناء على هذه الحقيقة فإنه ليس أمام أية دولة تريد أن تقلل خسائرها بسبب تقلبات العملات، سوى أن تربط عملتها بعملة قوية من العملات الصعبة التي تشكل جزءا كبيرا من تجارتها الدولية ، ومن خلال الاتفاق مع صندوق النقد الدولي منظم الاتفاقيات النقدية الدولية ، والمسؤول عن تسيير المدفوعات الدولية .
وفي هذه الحالة فإن صندوق النقد الدولي يطلب من البنك المركزي لهذه الدولة التدخل في أسواق العملات الدولية مشتريا لعملته المحلية في حالة انخفاض سعر صرفها عن سعر عملة الربط ، أو بائعا للعملة المحلية بالدولار في حالة ارتفاع سعر الصرف عن سعر صرف عملة الربط .. ويمكن أن يتعهد الصندوق بتوفير العملة الصعبة في حالة نقصها .
فإذا كانت عملة الربط هي الدولار ، وكانت التجارة مع الولايات المتحدة تشكل نسبة كبيرة من حجم التجارة الدولية التي تقوم بها هذه الدولة كأن تكون ٩٠٪ ، عندها يكون قرار ربط العملة بالدولار قرارا رشيدا ، أما إذا كانت التجارة لا تشكل هذه النسبة ولا نصفها أو ثلثها فإن قرار الربط في هذه الحالة يكون خاطئا .
ويمكن أن تقوم الدولة بالربط بسلة عملات وفقا لنسب حجم تجارتها مع كل دولة ، فيمكن أن تتشكل السلة من 50% دولار ، 30% يوان صيني 10% يورو ، 10% حقوق سحب خاصة . أو بأية نسب أخرى وفقا لنسب حجم التجارة مع كل دولة يتم ربط عملتها بها .
تستطيع الدول المتضررة من هذا الوضع ومنها الدول الإسلامية، أن تعمل على إيجاد عملة دولية موحدة ،تصدرها جهة إصدار مستقلة ، بعيدا عن الأمم المتحدة ومنظماتها ، بحيث تدار هذه العملة من قبل ممثلين عن هذه الدول . بما يضمن لهذه العملة أن تكون وسيطا محايدا ومعيارا عادلا للقيم بعيدا عن أسواق العملات الدولية وما يجري فيها من مضاربات ومقامرات عبثية .
غير أن الدول المتضررة ، هي متضررة بانقسامها وتفككها أولا ، ولا تستطيع الاندماج أو التحالف أو التكامل مع أية دول أخرى ، دون إذن الدول التي تدور في فلكها حاليا .. وهذا المشهد من الصعب تغييره ، بل من المستحيل ، ما لم تحصل معجزات كارثية تغير من أوضاع الدول المتحكمة ، وبشكل خاص ما أطلق عليه الدول السبعة العظام أو ( G7 ) .
إن ما يجري حاليا من أحداث عالمية في أوكرانيا وروسيا والصين والولايات المتحدة وبدء الحديث عن حروب نووية تكتيكية يعني مصغرة ، هي أقرب إلى هذه المعجزات الكارثية التي يمكن أن تغير من وضع الدول المتحكمة في العالم ، وبالتحديد مجموعة السبعة العظام ، ومجموعة العشرين ، وصندوق النقد الدولي ، وغيره من المؤسسات والمنظمات الدولية .. غير أن هذه المعجزات الكارثية لا يستطيع أحد التنبؤ بما سينجم عنها ، وكيف سيكون شكل العالم بعد هذه الكوارث ؟ وهل ستحدث تحالفات جديدة ؟ وموازين قوى جديدة ؟ هل يمكن أن تفقد أمريكا ودولارها السيطرة على الأمور ؟
جميع المؤشرات الحالية تشير إلى أن هذا الوضع بعيد جدا .. وأن الأوضاع لا بد أن تستقر في اللحظات الأخيرة .. وأن جميع العناصر المؤثرة تحت السيطرة .. ولذلك ينبغي على العقلاء والمفكرين والمؤثرين اقتصاديا وسياسيا ، التخطيط لكافة الظروف ووضع كافة السيناريوهات المتوقعة من أجل الخروج من هذه الأزمات بأقوى ما يمكن وبأقل الخسائر الممكنة .
وإذا عدنا إلى نفس السؤال الأول ، فإن إصدار عملة موحدة يتطلب أولا وقبل كل شيء الاتفاق بين الدول الإسلامية ، كما يتطلب توفر الإرادة السياسية والاقتصادية لتنفيذ الاتفاق ، وبدون ذلك ستبقى عملات الدول الإسلامية تدور في فلك الدولار وغيره من العملات الدولية .. وستبقى بحاجة ماسة إلى العملات الدولية الصعبة ، والتي لن يكون من بينها أية عملة عربية أو إسلامية ، بسبب وحيد ، وهو حالة التفرق والتشرذم التي تعيشها الدول الإسلامية ، وحالة عدم إمكانية وجود اتفاق جاد وحقيقي بين هذه الدول .

غزوة النفق .. وصناعة المستحيل أ.د كمال حطاب

06 September 2022

في مثل هذا اليوم من العام الماضي استيقظ الصهاينة والسجانون في دولة الاحتلال.. على فضيحة من نوع جديد ، هروب ستة من الأسرى من سجن جلبوع ، قرب بيسان ، من خلال نفق حفروه تحت الزنزانة إلى خارج السجن .. إنها فضيحة كبرى بحق السجانين في السجن الأشد حراسة بين سجون دولة الاحتلال .. كيف تمكن هؤلاء الأسرى من الهروب .. أُسقط في أيدي الصهاينة فباتوا يصولون ويجولون .. ويغلقوا الطرقات والمطارات .. ويضعوا الحواجز والنقاط التفتيشية في كل مكان ..
استطاع الأسرى الاختفاء لعدة أيام لم ينم فيها الصهاينة خوفا على حياتهم .. وتنفس فيها الأسرى الصعداء ولامست أرواحهم عنان السماء .. تنقلوا على أرض بلادهم من مكان إلى آخر .. من شجرة إلى أخرى .. من سهل إلى آخر .. بل إن بعضهم وصل إلى البيوت حيث يعيش الناس .. ولكنهم آثروا ألا يؤذوا أحدا ..
وظل الصهاينة يهددون ويتوعدون .. ويطلقون التصريحات يمينا ويسارا .. خوفا على حياتهم .. إنهم يعرفون جرائمهم وما يستحقونه نتيجة هذه الجرائم .. إنهم يعرفون حجم الظلم والقهر الذي يمارسونه في سجونهم وبالتالي فقد حسبوا ألف حساب لهؤلاء الأسرى الستة .. إن هؤلاء الستة كانوا ستة آلاف في عقول السجانين والمحتلين ..
إن موقعة النفق ، قد حفرت أنفاقا ومغارات مظلمة في عقول وقلوب المحتلين الظالمين ، والذين لم يعرفوا النوم بعد تحرر الأسرى خشية الانتقام ..
إن غزوة النفق قد حفرت أنفاقا من نور وأمل في عقول وقلوب المظلومين والمقهورين من أبناء الشعب الفلسطيني ومن سائر الشعوب ..
إن غزوة النفق قد غزت قلوب المحتلين الجبانة ، كما غزت حصونهم المدججة بالأسحلة والمحصنة إلكترونيا، فباتوا يحسبون كل صيحة عليهم ، وباتوا يعيشون في قلق عظيم .
ليس من حق المحتلين أن يسجنوا المقاومين ، فالمقاومة حق شرعي وقانوني تكفله كافة الشرائع والمواثيق الدولية ، والمحتلون يعرفون أنهم ظلمة ولذلك كانوا مرعوبين من تحرر الأسرى ، يعرفون أنهم كيان طارئ ولذلك هم مرعوبون من اقتراب نهايتهم .. يعرفون أنهم ينتهكون المواثيق الدولية والإنسانية ولذلك هم مرعوبون لأنه لن يستقبلهم أحد من البشر بعد انهاء احتلالهم ..
إن حجم المعاناة التي يعيشها الأسرى يمكنها أن تحفر النفق تلو النفق .. إن أرض الله واسعة ، فلا يحق لظالم محتل أن يحجز على حرية الناس خشية مقاومة احتلاله .. هذا ما تقوله الشرعية الدولية النائمة ..
إن حجم المعاناة التي يشعر بها من احتلت أرضه يولد في النفس طاقات هائلة جبارة مبدعة ، تستطيع أن تصنع المستحيل من أجل مقاومة المحتل وطرده ..
كما أن نموذج المقاومة من تحت الأرض ، يعتبر من أعلى وأسمى أشكال المقاومة ، وسيبقى هذا النموذج على مدار التاريخ شاهدا على قوة الحق وصناعة المستحيل ، ستبقى المقاومة تتمدد وتتجدد بأشكالها التي لا يمكن أن تنتهي أو تتوقف .
هل ستحقق المقاومة في فلسطين ما حققه الشعب الأفغاني ؟ وهل يمكن أن يندحر الصهاينة ويغادروا فلسطين كما غادر المحتلون أفغانستان ؟ هل يمكن أن يتكرر مشهد أفغانستان في فلسطين ؟ هذا ما نأمله وندعو الله أن نراه قريبا ( حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) آل عمران، 214

الفاقد التعليمي والفاقد الأخلاقي أ.د كمال حطاب

01 September 2022

يقول المختصون في علم النفس النمو ، بأنه توجد جوانب عديدة للنمو ، تتطلب من جهات التربية مراعاتها وتنميتها إذا ما أرادت أن تسير العملية التربوية بشكل سليم ، ومن أبرز هذه الجوانب ، الجانب العقلي والجانب النفسي والجسدي والشخصي والاجتماعي والحركي والجنسي والعاطفي والانفعالي واللغوي .. إلخ
كما يقول المختصون بتنمية الموارد البشرية بأن التنمية تتطلب إدخال جهات التغذية (وهي هنا وزارة التربية والمدارس التي تمثلها ) التغذية المناسبة من علوم ومناهج مختلفة وأنشطة للارتقاء بالإنسان عقليا ونفسيا وجسديا وسلوكيا وأخلاقيا ..إلخ
ولما كانت هذه الجوانب من مسؤوليات وزارة التربية والتعليم فإنها تقوم بمهمة تنفيذ هذه الوصايا المطروحة من قبل المختصين .. ولذلك أطلقت على نفسها وزارة التربية قبل التعليم ، فالتربية تشمل هذه الجوانب جميعا ، كما تشمل غرس قيم الفضيلة والصدق والوفاء والعطاء والتضحية والكرامة والعزة .. في نفوس الطلبة بحيث تتخرج أجيال أكثر قوة وعزة وكرامة ، تستطيع أن تواصل مسيرة التنمية والتقدم ..
غير أن الملاحظ أن تركيز وزارة التربية والتعليم في السنة الأخيرة كان على الفاقد التعليمي ، وهو أمر محمود نظرا لظروف الكورونا، وما تركته من فجوات ومهارات تعليمية .. ولكن تعويض الفاقد التعليمي على أهميته لا يكفي .. فأين تعويض الجوانب النفسية والاجتماعية والاقتصادية وأين التركيز على الجانب الأخلاقي في ظل هجمات وسائل التواصل الاجتماعي على القيم والأخلاق .. أين تعويض وتركيز الجانب الأخلاقي في ظل الدعوات غير الأخلاقية التي تحاول بعض المنظمات الدولية فرضها على مجتمعاتنا ، كالدعوة إلى المثلية أو الجنس الآمن للمراهقات وغيرها من الدعوات المناقضة لتربيتنا وأخلاقنا وتقاليدنا وعاداتنا وقيمنا ..
ماذا فعلت وزارة التربية والتعليم للتعويض أو تحصين الطلبة ضد هذه الدعوات الهدامة ؟ إن تعويض الفاقد التعليمي شيء جميل ، غير أن هذا الفاقد يركز على نمو الجانب العقلي فأين الجانب النفسي والشخصي والاجتماعي والعاطفي والانفعالي والسلوكي والأخلاقي .. إلخ ..
إن تغطية هذه الجوانب أمر ضروري ومن صميم العملية التعليمية والتربوية وفقا لما يقوله المختصون .. ولا يمكن أن تكتمل العملية التعليمة دونها ، بل إن الاستمرار بالتركيز على الجانب العقلي فقط ، سوف يخرج أجيالا مشوهة غير معتدة بشخصيتها ، وليست مستعدة للعمل الاجتماعي أو المساهمة في خدمة البلد .
إن محاولة فرض مناهج جديدة مثل الفلسفة ، كما أعلن عنه ، لن يغطي هذه الجوانب ، بل سوف يزيد من حالة التيه والضياع الذي تعاني منه الأجيال القادمة ..
آن الأوان لوزارة التربية أن تركز على رسالتها الأولى وهي التربية ، فالتعليم بدون تربية هو اختلال في النمو أو هو نمو مشوه أو تورم لبعض الأجزاء على حساب الأجزاء الأخرى ..
إن الفاقد الأخلاقي أحق أن يتم تعويضه بإعادة التأكيد على القيم الأصيلة في المجتمع .. ونبذ الرذيلة بكافة أشكالها ومعانيها ومسمياتها العصرية .
وكما يقول شوقي وما درى بالمصائب التي حلت بالأمة بعده :
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت .. فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا

الاقتصاد العالمي مغامر أم مقامر ؟…… أ.د كمال حطاب

30 August 2022

يبدو أن العالم الذي نعيش فيه أصبح غارقا في الوهم والخيال والفصام بشكل لم يسبق له مثيل ، فالمقامرون الكبار هم المسيطرون على حركة الأسواق ، وهؤلاء تحركهم شهية جني الأرباح نتيجة الهوامش وفوارق الهوامش ولا توجد متغيرات محددة تؤثر في شهيتهم سوى فرص حصد الأرباح .
يتحدث المحللون الماليون عبر القنوات الفضائية المختلفة عن أسعار العملات أو الذهب أو العملات الافتراضية أو أسعار النفط ، كما يتحدثون عن أخبار الحالة الجوية والأعاصير ، فيتحدثون عن بنك الاحتياطي الفدرالي الأمريكي وجيروم باول وقراراته وهل سيرفع سعر الفائدة وبكم نقطة ، ثم يتحدثون عن البنك المركزي الأوروبي وكريستين لاجارد ، ثم يتحدثون عن انهيار البتكوين وبقية العملات الافتراضية ، وحيتان المضاربين في هذه العملات ومصيرها ، والتحركات بين أسعار السندات وأسعار الفائدة .. إلخ
وهم في كل ذلك يعرضون الجداول والمنحنيات والتنبؤات المستقبلية التي تظهر أنهم يتحدثون علوما فنية دقيقة ، غير أن الواقع الذي يعيشه العالم في الوقت الحاضر ، أظهر أن هذه التحليلات المالية وكأنها أقرب إلى الخيال والخرافات ، أو تنتمي إلى علوم التنجيم أو علوم الشعوذة .
إن كبار الحيتان أو المضاربين هم الذين يحركون كل شيء ، وهؤلاء لا حد لجشعهم ، فحيثما وجدوا فرصة سريعة للربح انقضوا عليها ، وحيثما كانت الفوائد أكبر اتجهوا إليها ، وعندما تكون الأرباح المتحصلة عن طريق الذهب أكبر يتجهون إلى الذهب ، فإذا كانت عن طريق البتكوين والعملات الافتراضية أكبر اتجهوا إلى البتكوين وهكذا .. وهذا ما هو واقع في الوقت الحاضر .
إن أكثر من 90% من العقود المتداولة في الأسواق المالية لا يتم فيها انتقال سلع أو تسليمها ، وإنما هي تصفيات يومية لمراكز مالية ، وقد تكون ربحا أو خسارة ، فيسجل الربح في حساب العميل الرابح والخسارة من حساب العميل الخاسر .
إن العملية ببساطة هي مقامرات في مقامرات ، وتبقى الأموال محصورة في حسابات المقامرين ، وتحرم الشعوب وقطاعات الإنتاج من السيولة ، فيحدث الانكماش ويستمر الانكماش فيحدث الركود ويتعمق الركود فيحدث الكساد الاقتصادي .
طالعتنا الأخبار الاقتصادية أمس ، أن أصحاب المليارات في العالم خسروا قريبا من 78 مليار دولار بعد تصريح جيروم باول ، والذي استمر 8 دقائق ، وخسر بيزوس وحده قريبا من سبعة مليارات ، وماسك قريبا من ستة مليار دولار ، وبيل جيتس 2.2 مليار دولار وبافيت 2.7 مليار دولار .. إلخ .
هذه هي المقامرات بأوسع معانيها ، خسائر بالمليارات بسبب تصريح لمدة ثمان دقائق ، فأي اقتصاد عالمي نعيش فيه ، تصريح حول نية الفدرالي رفع سعر الفائدة بشكل متواصل من أجل السيطرة على التضخم ، فماذا لو استمر خطابه ساعة كاملة ؟ وما الذي كان سيحصل لو كان القرار رفع سعر الفائدة ، وليس نية رفع سعر الفائدة ، إنه اقتصاد مقامر وليس اقتصادا مغامرا ، كما وصفه توماس فريدمان الكاتب الأمريكي الشهير في أعقاب الأزمة المالية العالمية 2008 .
إن العالم الثالث ينظر بعيون شاخصة إلى هذه الخسائر ، ويراقب تهاوي أسعار الأسهم في الأسواق المالية ، وهو يئن من الفقر والبطالة وتراجع الرعاية الصحية والتعليمية ، وتساقط الضحايا في كل مكان نتيجة الحروب والكوارث والمجاعات وسوء التغذية .
إن البشرية بحاجة ماسة إلى التراحم والتكافل ، وليست بحاجة إلى سعر الفائدة الاستغلالي اللإنساني .. بحاجة إلى اقتصاد أخلاقي إنساني وليس اقتصادا استغلاليا وحشيا .
إن البشرية بحاجة إلى التشغيل والإعمار والإنتاج والتعاون على زيادة الخير والطيبات وليست بحاجة إلى الاحتكار والاكتناز وسعر الفائدة ..
إن البشرية بحاجة ماسة إلى اقتصاد حقيقي تشغيلي وليست بحاجة إلى اقتصاد مالي يتاجر في الوهم والأنشطة العقيمة .
إن البشرية بحاجة إلى أسهم أو صكوك تمثل موجودات حقيقية بقيم حقيقية ، وليس بحاجة إلى أسهم الخطيئة أو سندات الديون التي تمثل معظم الشركات المحرمات وشركات أسلحة الدمار والمقامرات والمراهنات والمتاجرة ب .
إن التحليل المالي يمكن أن يكون دقيقا ومنضبطا عندما يتعامل مع أرضية ثابتة ذات موجودات حقيقية ، وليس أرضية متحركة ذات موجودات اسمية مدونة في سجلات إلكترونية تمثل عقودا وهمية أو خيارات أو مستقبليات أو عقودا آجلة ، أو عمليات مقامرة على العملات أو النفط أو الغاز أو غيره مما يطرح في كل ساعة وفي كل لحظة على مواقع الإنترنت من أجل التداول ..

All Rights Reserved © www.KamalHattab.info  |  [email protected]