عودة إلى الصفحة الرئيسية

صناعة التعليم بين الجامعات الخاصة والعامة

20 August 2022

صناعة التعليم بين الجامعات الخاصة والعامة
أ.د كمال حطاب
تمارس الجامعات الخاصة صناعة التعليم بمهنية عالية ، وتنفق نفقات باهظة في سبيل الوفاء بمتطلبات التعليم الجامعي ، ومع ذلك فهي تحقق أرباحا طائلة ، مما يدل على وجود جدوى اقتصادية عالية لهذه الصناعة ..أما الجامعات الحكومية أو العامة فهي تقوم بالعملية التعليمية في ظل وجود مزايا وتسهيلات وحوافز ودعم حكومي مستمر ، ومع ذلك نجد أن هذه الجامعات تحقق مديونيات عالية ، مما يعني خسائر باهظة ..
وعند تحليل هذه الظاهرة فإننا نجد أن من أهم أسباب فشل صناعة التعليم الحكومي ، الفساد بمختلف أشكاله والذي ينتشر في معظم مرافق الجامعات الحكومية انتشار النار في الهشيم ..
فإذا سلطنا الضوء على الإدارات الجامعية ، سوف نجد أن هذه المناصب هي عبارة عن تشريف وليست تكليفا ، فمعظم المناصب ابتداء من الرئيس إلى أصغر منصب .. محاط بالشللية والمزاجية والمحسوبية وهي أبعد ما تكون عن المعايير المهنية ومقاييس الجودة الإدارية ومعايير الاعتماد الأكاديمي ..
وربما تختفي هذه الظاهرة أو تقل حدة في الجامعات الخاصة نظرا لحرص المستثمرين في الجامعات الخاصة على أموالهم وتطلعهم إلى أن تكون بأيد أمينة ذات خبرة وكفاءة مهنية عالية ..
ومن جانب آخر ، سوف نجد كل صاحب كرسي في الجامعات الحكومية يحرص على الاستفادة من مزايا المنصب ، فيحشد كل طاقاته لتعيين أقاربه وذويه ومن هو محسوب عليه ، بحيث يضمن له الاستمرارية الوجاهية حتى ولو فارق المنصب بعد سنوات .. وهذا ما يكاد ينعدم في الجامعات الخاصة .
ونتيجة للفساد الإداري تمارس في الجامعات الحكومية مختلف أشكال التبذير والسرف والأنشطة اللامنهجية الدعائية والتطبيلية تحت ذريعة الولاء والانتماء ، ودعم الفنون والفلكلور الشعبي والتراث .. إلخ ، وتخصص لهذه الأنشطة ميزانيات ضخمة على حساب ميزانيات البحث العلمي والمختبرات والتدريب ..
كما تمارس إدارات الجامعات الحكومية سباقات ماراثونية في حصد المشاركة بأكبر عدد ممكن من المؤتمرات الدولية وتوقيع الاتفاقيات ومذكرات التفاهم والتعاون المشترك .. بما يتطلب السفر الدائم والفندقة والبدلات والمياومات .. بما يقتطع من ميزانية الجامعة نصيبا كبيرا ..
قد يقول البعض إن الجامعات الحكومية تخضع لمراقبة وحدة النزاهة ومكافحة الفساد ووحدة الرقابة المالية والإدارة القانونية والمتابعة ، وقد يكون ذلك صحيحا ، ولكن هذه الوحدات قد تقوم بواجبها تجاه المخالفات البسيطة من بعض الموظفين ، ولكنها تتغاضى أو تجد مخارج قانونية لمن هم في أعلى المناصب .. والدليل على ذلك استمرار تراكم المديونيات وزيادة الخسائر عاما بعد عام .
إن قيام أحد رؤساء الجامعات بإنشاء سكن وظيفي له داخل أرض الجامعة ، ظنا منه أنه سيخلد في ذلك المنصب ، بكلفة تزيد على نصف مليون دينار ، وتأثيثه تحت إشراف زوجته وتغيير ستائره عدة مرات بعشرات آلاف الدنانير ، هو أحد أمثلة الفساد ، في الوقت الذي كانت تعاني معظم مباني الجامعة من انعدام التكييف ، وتم تزويد القاعات الكبرى بمراوح معلقة على الجدران تصدر ضجيجا يحول دون وصول صوت الأستاذ إلى الطلبة أو أصوات الطلبة إلى الأستاذ .
أظن أنه قد آن الأوان للتخلص من الفساد والإدارات الفاسدة .. والشللية والمحسوبية في الجامعات ، آن الأوان أن تدار الجامعات الحكومية بإدارات خاصة ، أو بعقود خاصة ، أو حتى من خلال نظام الخصخصة الوطنية المحلية ، بحيث تتولى الشركات الخاصة التي نجحت وتفوقت في إدارة جامعات خاصة ، إدارة الجامعات الحكومية الفاشلة والخاسرة .. بحيث تطهرها من الفساد والفشل والخسائر المتراكمة ..كما تطهرها من الفاسدين..

التخصصات الراكدة وقرارات مجلس التعليم العالي .. أ.د كمال حطاب

18 August 2022

التخصصات الراكدة وقرارات مجلس التعليم العالي

أ.د كمال حطاب
تقوم فلسفة نظام السوق الذي تسير عليه معظم دول العالم ، على ترك قوى العرض والطلب تتفاعل بحرية في الأسواق ، بحيث تتحدد السلع والخدمات المرغوب بإنتاجها تبعا للطلب الشديد عليها ..
ولما كان التعليم قد غدا سلعة ، ووافقت الحكومات والمجالس التشريعية على ذلك ، ووجدت الجامعات الخاصة التي سمح لها بتحقيق أرباح طائلة من خلال ممارسة مهنة التعليم الجامعي .. فإنه ليس من حق أحد أن يتدخل .. ويحدد التخصصات الراكدة وغير الراكدة والموقوفة مؤقتا أو بشكل دائم .. ولو كان الأمر من باب التوعية والإرشاد لكان مقبولا ، ولاستحق من قام بهذه الإرشادات الشكر والتقدير ، أما أن يكون الأمر هو تدخل كامل في إيقاف 42 تخصصا وبرنامجا جامعيا ، كما ورد في قرارات مجلس التعليم العالي .. فإن الأمر يصبح عندها تدخلا وتغولا على قوى السوق .
فإما أن تتحول الحكومات إلى اشتراكية تمارس التعليم ومجانية التعليم ، وتتعهد بالتوظيف الإجباري ، أو تترك الأمر لقوى السوق تحدد التخصصات المطلوبة ، وغير المطلوبة ، وبطبيعة الحال فإن التخصصات غير المطلوبة سوف تخرج من السوق عاجلا أو آجلا .
إن ما هو واقع في الوقت الحاضر ، أن معظم الدول التي ارتبطت بصندوق النقد الدولي في برامج إصلاح هيكلي ، قد رفعت شعار لا لتوظيف الخريجين ، وبالتالي فإنه ليس من حق هذه الحكومات أن تتحدث عن التخصصات الراكدة أو تتدخل بإيقاف تخصصات معينة بحجة أنها راكدة ..
إن مسألة تنظيم قطاعات التعليم والتركيز على ما يحتاجه المجتمع أو ما له أولوية في المجتمع هو أمر مقبول وسياسة تعليمية رشيدة ، غير أن إلزام الناس بتخصصات بعينها وإغلاق تخصصات أخرى بحجة إشباعها هو تدخل من الحكومات في غير محله .
إن مهمة الحكومات هي التوجيه والإرشاد ، وليس من مهامها إلزام الناس وإجبارهم بحجة الإشباع أو الركود في التخصصات .. ثم ما هي المعايير التي تعتبر فيها بعض التخصصات مشبعة أو راكدة ، هل هي البطالة أو عدم وجود فرص عمل ، إن من أكثر التخصصات بطالة في السنوات الأخيرة تخصص الطب والهندسة ، وقد رأينا آلاف الأطباء والمهندسين لا يجدون عملا ، فلماذا لا تعتبر هذه التخصصات راكدة أو مشبعة ؟
إن من حق الناس أن يدرسوا ما يتناسب مع ميولهم ومواهبهم ورغباتهم ، حتى ولو كانت فرص العمل نادرة في هذه التخصصات ، خاصة وأن ما هو مشبع أو راكد اليوم من التخصصات قد يكون مطلوبا بقوة بعد سنة أو سنوات .. كما أن معظم الخريجين لا يعملون في مجالات تخصصهم ، وكذلك فإن العديد من الخريجين أو الخريجات ربما ليسوا بحاجة إلى الوظيفة ..
إن التعليم الجامعي يسهم في نضج الطالب وتحقيق التوازن والاستقرار الشخصي والنفسي ، واكتساب شخصية علمية هادئة متزنة ، وهذه المخرجات لا يمكن قياسها بمعيار الوظيفة أو فرصة العمل .
إن التعليم الجامعي ليس تدريبا عسكريا حتى يكون إلزاميا في بعض جوانبه ، كما أنه لا يخضع لقوانين عسكرية أو طوارئ ، وإنما يخضع لقوانين السوق الطبيعية ، فما كان مطلوبا سوف يسجل فيه من يطلبه وما لم يكن مطلوبا من التخصصات سوف يغلق تلقائيا .. وبالتالي فلا يوجد أي مبرر للتدخل بالتقييد أو الإلغاء ..
إن الدول أو الحكومات التي تتدخل فيما هو مشبع أو راكد من التخصصات ، ينبغي أن تتحمل المسؤولية في التوظيف مهما كانت ظروف السوق ، وإلا فلتكف يدها عن التدخل ، ولتمارس دور الإشراف والرقابة والتوجيه ، بما يضمن سوقا حرة للتعليم ، بعيدة عن الاحتكار والتواطؤ والسلوكيات المنحرفة .

خريجو الجامعات.. وغياب التقدير أ.د كمال حطاب

01 August 2022

تابعت قبل يومين على اليوتيوب حفل تخريج طلبة الفوج السابع والخمسين من طلبة الجامعة الأردنية ، وقد لفت انتباهي حجم الفرح والشغف والانطلاق في عيون ووجوه الخريجين ، ففرحت لفرحهم وتذكرت هذه الاحتفالات أيام تخرجت من جامعة أم القرى ، وأيام شاركت في هذه الاحتفالات، كأستاذ في الجامعة ، في جامعة اليرموك ، والجامعة الأردنية ، وغيرها من الجامعات التي عملت فيها في باكستان وماليزيا والكويت وغيرها ..
من حق الخريجين أن يفرحوا ، ومن حق ذويهم أن يشاركوهم الفرح ، ومن حقهم أن يترجموا هذا الشغف والانطلاق والحب إلى إنجاز وعطاء وعمل ، من حقهم أن يكون لهم عمل ووظائف تنتظرهم ، يطبقون فيها ما تعلموه ، فينفعون أنفسهم وأهليهم ومجتمعهم . من حق هذه الطاقات الشبابية أن تجد لها تصريفا نافعا ، واستثمارا مفيدا ، ومشاركات بناءة في خدمة المجتمع بكافة مرافقه .. من حق هذه الأجيال أن تواصل المسيرة ، في بناء أسر صالحة ، تسهم في بناء مجتمع صالح ..
غير أن من أكثر الصور التي كانت تتردد على ذهني وأنا أشاهد هذا الحفل البهيج ، صور الشباب والشابات من موزعي طلبات وكريم وغيرها من شركات الديليفري .. والذين يقدرون بالآلاف ، ومعظمهم من خريجي الجامعات بمختلف التخصصات ، وصور سائقي الأوبر وكريم وغيرها من شركات التاكسي ، .. صحيح أن هذه أعمال شريفة محترمة ، يقدّر أصحابها على تعبهم وجهودهم ، لأنهم لم يرتضوا بالجلوس ، انتظارا لديوان الخدمة أو لأي وظيفة أخرى .. غير أن العمل في التخصصات التي قضوا شطرا من أعمارهم في تعلمها وإتقانها سيكون أنفع لهم وللمجتمع ..
ما الذي يمنع من وجود تخطيط وتنسيق بين الجامعات بأقسامها المختلفة ، والشركات والمؤسسات العامة والخاصة ، بحيث يقوم أصحاب العمل بتزويد الجامعات باحتياجاتهم من التخصصات للعمل في الحاضر والمستقبل ، بحيث توجد إحصاءات دقيقة حول ما ينقص هذه الشركات والمؤسسات من التخصصات لعدة سنوات قادمة .. فيحدث التنسيق بين هذه الشركات والجامعات ، أثناء دراسة الطلبة ، ويمكن أن يتدرب الطالب لدى هذه الشركات .. بحيث تكون له الأولوية في العمل بعد تخرجه .
ما الذي يمنع مؤسسة الضمان الاجتماعي من القيام بهذه الوظيفة ، خاصة وأن لديها معلومات دقيقة عن كل شركة ومؤسسة وصاحب عمل ، فتقوم ومن خلال هذه المعلومات بحساب ، معدل نمو للأعمال ، من خلال مؤشرات الزيادة في الرواتب ، ونسبة ما يدفع للضمان ، وكذلك المعدل السنوي في التوظيف في كل مؤسسة أو شركة أو منشأة .
لماذا لا يقوم ديوان الخدمة المدنية بإيجاد إحصاءات دقيقة لكافة التخصصات ، ومن خلال سلاسل زمنية لعشر سنوات ماضية ، وعشر سنوات لاحقة .. حول حجم التوظيف ونموه ومستقبله في كل مؤسسة أو شركة أو منشأة عمل ..
لماذا لا تقوم كل نقابة عمل ، بتوفير مثل هذه الإحصاءات ، اتحاد العمال ، نقابة المهندسين ، الأطباء ، الصيادلة ، .. إلخ
إن قيام جهة خاصة مختصة بالتوظيف بتوفير هذه الإحصاءات ، وإجراء التنسيق المطلوب بين الخريجين وأصحاب العمل ومؤسسة الضمان الاجتماعي ، كفيل بالحد من معدلات البطالة وزيادة فرص التشغيل ..
إن من أبسط حقوق الخريجين أن يفرحوا ، وأن يرفعوا أيديهم احتفالا بالنجاح ، كما أن من حقهم على المجتمع وعلى الدولة أن ينالوا التقدير والمكافأة على إنجاراتهم ، فليس أقتل للفرح من عدم التقدير ، وليس أضيع للإنجاز والإبداع من عدم المكافأة ..

وصور الشباب والشابات الذين يحاولون أن يكون لهم أثر ومتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي

خواطر في الحج (2) أ.د كمال حطاب

11 July 2022

يُبرر كثير من الحجاج والمعتمرين دخولهم في الزحام وتكبدهم عناء المشقة ، بقولهم : الأجر على قدر المشقة .. ويظنون من خلال ذلك أن المشقة أمر مطلوب شرعا .. ولكن هذا الفهم هو فهم خاطيء معارض للنصوص الشرعية التي تقول “وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ” .
فالأجر يكون على قدر المشقة الطبيعية التي لا يمكن دفعها ، أما إذا تمكنا من دفعها فهو الأمر المطلوب ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما .. وهو القائل صلى الله عليه وسلم ” لا ضرر ولا ضرار ” .
إن ما ورد من أحاديث في فضل المشي إلى الصلاة ، إنما ورد في الأحوال الطبيعية ولمن كان قويا ولا يؤدي مشيه إلى مشقة أو ضعف بل إلى زيادة قوة ، ولمن لا يصرفه المشي عن أداء واجب أولى ، وكذلك لمن لا يؤذي نفسه أو غيره من خلال المزاحمة في المشي .
فالأصل في هذا الموضوع أن الشريعة جاءت لتحقيق مصالح العباد ، وتيسير حياتهم ، وليست لتعذيبهم أو فرض المشقة عليهم ، وقد أخرج البخاري أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رَأَى شيخًا يُهَادَى بيْنَ ابْنَيْهِ، قالَ: ما بَالُ هذا؟ قالوا: نَذَرَ أنْ يَمْشِيَ، قالَ: إنَّ اللَّهَ عن تَعْذِيبِ هذا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ. وأَمَرَهُ أنْ يَرْكَبَ.
كما ورد في حديث أنس  قال: دخل النبي ﷺ المسجد فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: ما هذا الحبل؟، قالوا: هذا حبل لزينب إذا فترت تعلقت به، فقال النبي ﷺ: حلوه، ليُصلِّ أحدُكم نشاطَه، فإذا فتر فليرقد . متفق عليه .
إن إلحاق الأذى بالنفس أو بالآخرين سواء في الصلاة أو الطواف أو السعي أو عند رمي الجمرات ليس مقبولا شرعا ، وليس فيه أجر ، بل ربما يكون فيه الوزر ، خاصة عندما يؤذي الناس الضعفاء ، أو عندما يختلط بالنساء سواء كان قاصدا أو عن غير قصد .. فمن وضع في رأسه أن الأجر على قدر المشقة الناجمة عن مزاحمة ومدافعة الناس ، وأراد أن يشق على نفسه ، وعلى الناس ، كان مخالفا للشريعة وللهدي النبوي .
إن هذه الشريعة كلها يسر ومصلحة ، وما كان فيه حرج فليس من الشريعة في شيء ، ولذلك وجدت الرخص للمضطر أو المريض أو المسافر ، فمن كان لا يستطيع أن يصلي واقفا ، يسمح له بالصلاة جالسا ، ومن كان لا يستطيع الجلوس يسمح له بالصلاة على جنبه .. وهكذا ، وكذلك في الحج فمن لا يستطيع أن يطوف أو يسعى ماشيا أذن له أن يطوف ويسعى راكبا ، ومن لم يكن قادرا على رمي الجمرات أذن له بتوكيل غيره ، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للضعفاء وللنساء بالخروج من مزدلفة بعد منتصف الليل تجنبا للزحام والمشقة ، كما ورد ” أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع فجعلوا يسألونه، فقال رجل: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح؟ قال: اذبح ولا حرج . فجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي؟ قال: ارم ولا حرج . فما سئل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج ” متفق عليه.

خواطر في الحج .. أ.د كمال حطاب

09 July 2022

من القواعد الفقهية الشهيرة ، قاعدة : لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان ، وهي قاعدة تختص بالأحكام الفرعية الاجتهادية ولا تتعلق بالثوابت من الأحكام .. ولعل من الأمثلة الشهيرة على هذه القاعدة في العصر الحاضر ، مسألة نقل أضاحي مكة ، فقد كانت الفتوى على أن هذه الأضاحي محلها أهالي مكة ولا يجوز نقلها خارج الحرم ..
وقد كنا في مكة المكرمة في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي ، مع معظم الحجاج ، نصاب بالأمراض نتيجة تعفن معظم هذه الأضاحي بعد ذبحها ، وإلقائها على قارعة الطريق نظرا لعدم الحاجة إليها .. ونتيجة لهذه المفسدة العظيمة التي تخالف المقاصد الشرعية من الأضاحي والتي تتمثل بإطعام المحتاجين من سكان الحرم .. وجدنا الفقهاء يفتون بجواز إخراج الأضاحي خارج الحرم إلى فقراء المسلمين في جميع أنحاء العالم . وبالفعل كلف البنك الإسلامي للتنمية بإدارة مشروع الأضاحي ، وبدأت ملايين الأضحيات تصل إلى فقراء المسلمين في بنغلاديش ودول إفريقيا وغيرها من مناطق المسلمين .. ولم تتوقف الفتوى عند هذا الحد ، فصدرت فتاوى فيما بعد بجواز توكيل من يذبح هذه الأضاحي في الدول التي يكثر فيها فقراء المسلمين ..
وهكذا تم القضاء على مشكلة تعفن لحوم الأضاحي وعدم الاستفادة منها ، وتحققت مقاصد الحج بشكل أفضل من خلال مساعدة الفقراء والمحتاجين في مختلف دول العالم ..
وكذلك كان الحال في موت أعداد كبيرة من الحجاج سنويا نتيجة ضيق حدود منى ، ومناطق رمي الجمرات ، عندها تطورت الفتوى ، وسمح بتوسيع مناطق الجمرات ، فأمن الحجاج وتناقصت أعداد الوفيات التي كانت تحدث بسبب الزحام بل ربما انعدمت ، وهكذا تتحقق المقاصد الشرعية المستمدة من قوله تعالى ” وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ” ( الحج ، 78) .
إن التصلب أو التحجر على فهم واحد لبعض النصوص ، وإجبار الأمة على هذا الفهم رغم ما فيه من مشقة وحرج وضرر ، يخالف الأصول الشرعية التي جاءت بها النصوص الشرعية في معظمها ، كما يخالف المقاصد الشرعية التي تدعو إلى اليسر ودفع الحرج ، وهذا الفهم لا يتناسب مع روح الشريعة ومقاصدها السامية .
ولا يزال المسلمون يعانون حتى هذه اللحظات من مظاهر تنافي أصول الدين ومقاصد الشريعة من خلال التدافع والتزاحم والاختلاط في الطواف والسعي .. وهذه مظاهر لا شك أنها تخالف نصوصا شرعية قطعية، فليس التزاحم في مناسك الحج والعمرة ، وما يترتب عليه من ضرر ، مما أقرته الشريعة ، بل على العكس فإن ذلك أمر منهي عنه بقوله صلى الله عليه وسلم ” لا ضرر ولا ضرار ” وبالتالي ينبغي أن يجد المسلمون لأنفسهم ترتيبات وإجراءات إدارية ، تخفف من التزاحم والتدافع .
ويمكن أن يتم ذلك باستخدام بطاقات ممغنطة تحدد فترات للرجال وأخرى للنساء ، فيسمح بالدخول إلى الطواف لمن كان مأذونا له ، ويمكن أن يمنع من أدى الطواف من تكراره مرة أخرى ، ويمنع أهل مكة ممن اعتمروا أو حجوا مرارا من الحج أو العمرة في رمضان ، ويسمح بالطواف من خارج المطاف على عربات أو دراجات كهربائية ذات سرعة ثابتة ، وقد طاف النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكب على ناقة ، وأمر زوجته أم سلمة عندما اشتكت مرضا بقوله صلى الله عليه وسلم ” طوفي من وراء الناس وأنت راكبة ” ( أخرجه البخاري ومسلم ) .
وقياسا على ذلك يمكن اللجوء إلى كل الوسائل التي توفر الراحة خاصة لكبار السن أو المرضى أو ذوي الاحتياجات الخاصة .. ومن ذلك أن يتم تشييد أحزمة ناقلة كما في المطارات يتم الطواف والسعي من خلالها او تقام عربات تلفريك يتم من خلالها نقل الناس أثناء الطواف أو السعي ، على أن تكون بسرعة ثابتة توفر السكينة والطمأنينة ، وعلى أعلى درجات الأمان ..، وعندها يبقى الطواف والسعي ماشيا لمن كان قويا قادرا معافى لا يشكو من أي ضعف أو مرض .. وهكذا ..
إن الفتوى في هذه المسائل ضرورية ، وقد آن الأوان في الوقت الحاضر ، وبعد أن تهيأت الظروف التنظيمية والتكنولوجية لتطبيقها .. آن الآوان لإصدار فتاوى تنظم عملية الطواف بحيث لا يحدث الاختلاط والزحام بين الرجال والنساء ، ولا يلحقوا الضرر بأنفسهم أو ببعضهم بعضا ، ويتم الطواف بأريحية وهدوء وسكينة ، تليق بقداسة الكعبة والحرم الشريف .. تطبيقا لقوله تعالى ” فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ”(البقرة ، 197) ”

All Rights Reserved © www.KamalHattab.info  |  [email protected]