عودة إلى الصفحة الرئيسية

البتكوين .. عملة المستقبل ؟؟ أ.د كمال توفيق حطاب

31 August 2021

البتكوين .. عملة المستقبل ؟؟
أ.د كمال توفيق حطاب

وصلت عملة البتكوين قبل أيام إلى خمسين ألف دولار ، وقبل أشهر قليلة وصلت إلى حاجز أل ستين ألفا ، وأعلى منه قليلا ، فهل يمكن أن تستمر في الصعود؟ وما الذي أدى إلى هذا الارتفاع ؟ وهل يمكن أن تكون عملة المستقبل ؟ وهل يمكن أن تحل محل العملات القائمة أو محل الدولار ؟
هذه أسئلة تتردد كثيرا على ألسنة الناس ، ويتوقع البعض أن تصل قيمتها إلى مليون دولار ، حيث تتكون البتكوين الواحدة من مئة مليون سوشي ، فيكون السوشي مقابل مئة دولار ، ولكن قبل ذلك ، كيف ستصل إلى هذا الرقم ، وعلى أي أساس أو أي أسلوب ؟ وما هي أشكال المضاربات التي تمارسها صناديق التحوط ، وكبار المضاربين العالميين .. ولماذا منعت معظم حكومات العالم تداول البتكوين في وقت سابق ، وعادت بعضها إلى الموافقة القانونية عليها حاليا ..
مع انتشار وتفوق البتكوين في السنوات الماضية ، خشيت كثير من الحكومات على سيادتها ، فقررت منع التداول بها ، غير أن ظهور أزمة كورونا وازدياد التعامل بها بشكل كبير ، وإقبال عدد من الشركات العالمية الكبرى على اقتناء كميات كبيرة من البتكوين ، أدى إلى ازدياد الثقة بها بشكل كبير ، وهذا ما دفع معظم حكومات العالم إلى الاعتراف الجزئي بمشروعيتها القانونية .
كما أن إقبال عدد من الشركات العالمية الكبرى على شراء البتكوين دفع معظم المستثمرين في العالم إلى شراء هذه العملة ، وهو ما أدى إلى تضاعف قيمتها بشكل كبير جدا .
من بدهيات أدبيات العملات والنقود أن النقد يمكن أن يكون أي شيء فلا يشترط فيه أن يكون نقدا أو ورقا أو ذهبا أو فضة ، بل مرجعه إلى العادة واصطلاح الناس على التعامل به . غير أن هذا الاصطلاح والعادة حتى تكون معتبرة لا بد فيها من الصبغة القانونية ، ودون ذلك فلن يكون النقد مقبولا ولن تحصل العادة أو الاصطلاح .
ولذلك كان النقد عبر التاريخ من مظاهر سيادة الدول ، وحتى وقتنا الحاضر فإن عملات العالم هي من اختصاص الدول ، وبالتحديد البنك المركزي في كل دولة .
غير أن المراقب لأوضاع حكومات العالم يجد أن الذي يحكم العالم حقيقة في الوقت الحاضر ، هو الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات ، وبالتالي فعندما يكون من مصلحة هذه الشركات إضفاء الصبغة القانونية على هذه العملات أو غيرها ، فسوف تصبح قانونية ، والعكس ، وهكذا يدخل العالم بكافة حكوماته ومؤسساته في قبضة الشركات ، وتصبح القرارات السيادية لكل دولة خاضعة لرغبة الشركات وأصحاب الشركات .
فهل يمكن أن يصطلح الناس أو تصطلح الشركات الكبرى على تداول عملات معينة دون موافقة الدول أو الحكومات ؟ هل يمكن للبتكوين أن تصبح عملة قانونية في كافة دول العالم ؟ وهل يمكن أن تكون بديلا للدولار ؟ أو بمعنى آخر ، ماذا لو صدر قرار من الولايات المتحدة بإلغاء الدولار وإحلال البتكوين مكانه ؟
لا شك أن صدور مثل هذا القرار سيشكل صدمة كبيرة لكافة دول العالم ، حيث تمتلك معظم دول العالم مليارات الدولارات وربما تريليونات الدولارات .. فما الذي سيحدث لهذه التريليونات أو المليارات ؟ هل يمكن أن تتبخر في لمح البصر ؟ وماذا سيترتب على ذلك ؟ وهل هذه الأسئلة من المستحيلات العقلية ؟
مما لا شك فيه أن هذه الأسئلة ليست من المستحيلات العقلية ، بل هي من الممكنات العقلية ، وقد سبق أن صدر قرار من الولايات المتحدة ربما كان أخطر من مثل هذه القرارات ؟ ففي عهد الرئيس الأمريكي نيكسون صدر قرار بعدم قابلية تحويل الدولار إلى ذهب ، وتقبل العالم ذلك القرار دون أي اعتراض ، وحل الدولار محل الذهب على مستوى العالم ، ورضيت دول العالم أن تأخذ أوراقا نقدية لا قيمة ذاتية لها مقابل الذهب ، ولا يزال الوضع قائما حتى وقتنا الحاضر .
غير أن قرار إلغاء الدولار وإحلال البتكوين مكانه لن يكون سهلا ، فهذا القرار يتطلب أن تكون أمريكا مسيطرة تماما على هذه العملة ، أو تكون مالكة لمعظم ما أصدر منها ، وبالتالي تمتلك القدرة على إدارتها والتحكم بها . فهل يمكن أن يحصل ذلك ؟ وهل يمكن لأمريكا أو أية دولة أخرى أن تسيطر أو تتحكم في عملية إصدار البتكوين وغيرها من العملات الافتراضية ؟
الخبراء في الجوانب الفنية يقولون بأن ذلك صعب جدا ، ولكن أليست هذه العملة معتمدة كليا على الإنترنت ؟ أليست شبكة الإنترنت تحت السيطرة والتحكم ؟ ثم أليس هذه العملة وأخواتها تعتمد في تعدينها على استهلاك كمية كبيرة جدا من الكهرباء ؟ ألا يمكن معرفة من هي الجهات التي تستهلك هذه الكميات الضخمة من الكهرباء ؟ كيف قامت ماليزيا بتحطيم أجهزة المُعدنين نظرا لاستهلاكهم المفرط للكهرباء في الأسابيع الماضية ؟ وكذلك فعلت إسبانيا عندما اكتشفت مزارع لتعدين البتكوين .. لماذا يحاول الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة الأمريكية إيجاد تشريع بفرض ضريبة على من يملك ما قيمته عشرة آلاف دولار فأكثر من البتكوين ؟ وكيف سيتم ذلك إذا لم تكونوا قادرين على السيطرة والتحكم ؟
إن هذه التساؤلات تشير إلى وجود احتمالات بأن عملية إصدار البتكوين هي تحت السيطرة ، وأن من مصلحة الدول الكبرى استمرار إصدارها ، وإلا فإنها تستطيع إيقاف التعدين ، كما تستطيع فرض ضرائب على هذه الإصدارات .
إن ما كانت تخشاه الحكومات سابقا ، هو أن تفقد السيطرة على إصدار العملة والتحكم بها ، فيما لو انتشرت عملة البتكوين وأخواتها انتشارا واسعا ، يصرف الناس عن التعامل بالعملات المحلية والدولية الأخرى ، ففي هذه الحالة سوف تفقد الحكومات سر قوتها وتحكمها وسيطرتها .
إن العملات في أصلها في الأدبيات النقدية هي ديون على مُصدريها ، وهي أشبه بتذاكر حضور المباريات ، فلا بد أن تكون هذه التذاكر مقيدة بعدد الأشخاص الذين يستفيدون منها ، فإذا زادت هذه التذاكر فسوف يوجد تضخم في الملاعب والمدرجات ، وإذا انخفض عددها فسوف يحدث العكس ، ولذلك تحرص البنوك المركزية على أن يكون حجم إصدار العملة مساويا لحجم الناتج القومي الإجمالي تجنبا للتضخم والانكماش والتقلبات المرافقة .. أما في حالة العملات الافتراضية فإنها عبارة عن إصدار تذاكر من غير شباك التذاكر ، وسوف تؤدي زيادة الإصدار منها إلى وجود تضخم نقدي كبير في حالة السماح بتداولها في كافة القطاعات .. ما لم يوجد اتفاق دولي ينظم هذه العملية .
إن معظم العملات الدولية كالدولار واليورو ، هي أشبه بإصدار التذاكر خارج شباك التذاكر ، ولكن وجود اتفاق دولي مستمر منذ بريتون وودز ، ووجود أجهزة عالمية كصندوق النقد الدولي تحمي هذا الاتفاق ، تعطي لهذه العملات الدولية الشرعية القانونية ، وتمكنها من السيطرة على كافة أسواق العالم .. فالتذاكر ليست محصورة بملعب أو مدرج واحد ، وإنما يمكن استخدامها في كافة الملاعب والمدرجات في العالم .
إن عملة البتكوين فيما لو تمكنت أمريكا أو الدول الكبرى من إيجاد اتفاق حولها فإنها يمكن أن تكون عملة دولية تحل محل العملات الدولية السائدة ، وبالتالي فإن وصول قيمتها إلى مليون أو أكثر من ذلك ليس مستبعدا في حالة واحدة ، وهي وجود اتفاق دولي أشبه بالاتفاق حول الدولار .

اقتصاد المقاهي والكافيهات أ.د كمال حطاب

21 August 2021

في صيف 2010 دعيت إلى مؤتمر حول العولمة والقانون والشريعة في مدينة أكسفورد البريطانية ، وقد لفت انتباهي في تلك المدينة الوادعة تلك الكافيهات الممتدة في كل شارع ، المليئة بروادها المنهمكين بقراءة الكتب أو العاكفين على شاشات اللابتوب ، واللافت أكثر أن معظم تلك الكافيهات كانت تضم مكتبات ، بحيث يستطيع الجالس في الكافيه أن يقرأ ما يشاء . وكان منظر القراءة والاعتكاف على الكمبيوتر مع رائحة القهوة منظرا رائعا خلابا .
عندما أتذكر ذلك المؤتمر وتلك الكافيهات كنت أتساءل ، لماذا لا تكون الكافيهات في بلادنا العربية بهذا الشكل، القهوة مع الكتب مع البحث العلمي والاعتكاف على شاشات الكمبيوتر ..
وبالرغم من انتشار فروع تلك الكافيهات العالمية في الوقت الحاضر في معظم الدول العربية ، ونجاحها نجاحا كبيرا في جذب الجمهور والزبائن إليها ، إلا أن ثقافة القراءة لم تنتشر كما هي في الدول الغربية ..
حققت هذه الكافيهات في معظم الدول العربية نجاحا باهرا في إيجاد الزبائن الذين لا يستطيعون ممارسة حياتهم دون شرب القهوة من هذا الكافيه أو ذاك .. نجحت هذه الكافيهات من خلال التزامها بالكفاءة والمهنية وحسن الاستقبال وخلق بيئة بيتية للزبون ، بحيث يشعر الزبون وكأنه في بيته ، فلا يسأله أحد عن طلبه حتى يطلب، ولا يزعجه أحد بالسؤال أو التطفل عليه في أي شأن ..
لعل المكان الوحيد الذي تجد الناس فيه مصطفين في طوابير دون ضجر أو ملل هو هذه الكافيهات ، ولعل من أبرز عوامل نجاح هذه الكافيهات التزامها بمعايير مهنية محددة ثابتة لا تحيد عنها ، النظافة العالية ، حسن استقبال الزبون وتوديعه ، تقديم مذاقات ثابتة لا تتغير لكل شكل من أشكال القهوة المقدمة، الزبون دائما على حق ، الإخلاص والتفاني في العمل .. الهدوء .. الجلسات المريحة من خلال تنوع الكراسي والأرائك ..رائحة القهوة هي نفسها حيثما تجولت في مختلف مناطق العالم .
نجحت هذه الكافيهات رغم عدم وجود دخان أو أرجيلة أو مشروبات كحولية أو قمار أو غيره من الأنشطة الضارة بالإنسان والبيئة والمجتمع . نجحت في توفير أجواء مريحة هادئة بعيدة عن الضوضاء والضجيج والحياة الصاخبة .
إن معظم ما تتصف به هذه الكافيهات الأجنبية هو مقبول مهنيا وأخلاقيا ، بعكس المقاهي العربية التي لا تلتزم بأية معايير ، فمعظم المقاهي العربية الشعبية يتجمع فيها كبار السن حول ألعاب الورق أو النرد والتي قد لا تخلو من قمار ، ويتجمع فيها الشباب حول شاشات التلفاز لمتابعة المباريات أو غيرها من الأفلام ، وقد يتجمعون على بعض الألعاب الإلكترونية ، وتندر المقاهي العربية التي تخلو من الأرجيلة أو الدخان ، كما تندر المقاهي العربية التي تنتشر فيها الكتب أو قراءة الكتب ..
إن اقتصاد المقاهي والكافيهات هو اقتصاد أخلاقي بالدرجة الأولى يتناسب مع مستوى تقدم المجتمع أو تخلفه ، فبقدر ما يتقدم المجتمع ترتقي هذه الكافيهات بدورها في إتاحة المكان الهادئ الذي يساعد على التفكير والإبداع ، وبقدر ما يتخلف المجتمع تتدهور رسالة هذه الكافيهات إلى تضييع الوقت وإشباع الغرائز والشهوات.
إن الحلقة المفقودة في معظم هذه الكافيهات في معظم الدول العربية هو أن تحتوي على مكتبات أو أرفف للكتب الصادرة حديثا ، أو كتب الأدب العالمي .. إلخ ، ولا أظن هذه الكافيهات سوف تعترض إذا ما اشترط عليها الاحتفاظ بمكتبات دائمة بين جدرانها وأرائكها المتناثرة .

الخطر والمخاطرة في التمويل الإسلامي أ.د كمال حطاب

30 July 2021

من بدهيات الشريعة أنها تهدف إلى التيسير على الناس ورفع الحرج ، ودفع الضرر والضرار ، وبالتالي فإن الخطر إذا كان بمعنى تعريض النفس للضرر والمال للخسارة فهو أمر لا يتفق مع المقاصد الشرعية ، ولكن الشريعة جعلت الغنم بالغرم ، والربح مربوطا بالتجارة والمخاطرة ، وكما هو سائد عند التجار ، الربح الوفير يترافق مع الخطر الكبير ، فهل تصح المخاطرة أو المجازفة أو تعريض المال للخطر مع الأخذ بكافة الوسائل الاحتياطية الضرورية .
مما لا شك فيه أن الخسارة ضرر ، وأن تلافي الخسارة والعمل على تجنبها أمر مطلوب شرعا ، حفظا للمال من الضياع ، غير أن طبيعة الأسواق تقوم على دفع الناس بعضهم ببعض ، كما تقوم على التعاون والمشاحة . ومن هنا فإن التعرض للمخاطرة هو أمر طبيعي يترافق مع انتقال السلع والأموال من مكان إلى آخر ، كما يترافق مع تقلبات الأسواق والظروف البيئية المحيطة بها .
غير أن المخاطرة أو التحوط في شراء الذهب أو النفط أو البتكوين أو غيرها من الأصول التي يزداد عليها الطلب العالمي في الوقت الحاضر ، محفوف بمخاطر شديدة لا يمكن لأحد أن يتنبأ بها .
إن أسعار العملات والعقود والمؤشرات والخيارات والمستقبليات في الأسواق العالمية محكومة بعوامل ومتغيرات لا يمكن توقعها أو السيطرة عليها ، فهي محكومة بسلوك المضاربين الكبار في العالم والذين يعتمدون على خبراء متخصصين في الرياضيات وفي الهندسة المالية ، من أجل محاولة حصر الاحتمالات المستقبلية لأي خطوة يخطونها في هذه الأسواق المظلمة .
إن سلوك المضاربين الكبار أو الحيتان بلغة البورصات هو الذي يحدد مسار الأسواق ، وهو يختلف عن سلوك معظم المتداولين في الأسواق ( الدببة ) والذين يتبعون الغرائز أو ينقادون وراء الأرباح السريعة .. فهل يمكن لعلم إدارة المخاطر التخفيف من حدة التقلبات التي تتعرض لها قيم الأموال والممتلكات للأفراد والمؤسسات ؟
إن علم إدارة المخاطر يبحث في محاولة تجنب الخطر أو نقله أو تأجيله أو تخفيفه إلى أدنى درجة ممكنة ، وهو يقوم على طرق وأدوات تتضمن قياس الخطر وتحديده ومن ثم تحجيمه من خلال مواجهته ، وقد وجدت تطورات عديدة في هذا العلم مثل معايير بازل ، ونظام كوزو ، ومقياس كاميلز ، وغيرها من المقاييس التي تساعد على تقييم الخطر وقياسه ومحاولة تجنبه أو نقله أو التخفيف من حدته .
ومما لا شك فيه أن علم إدارة المخاطر من منظور إسلامي سوف يكون أكثر ضبطا ودقة وقدرة على مواجهة المخاطر والابتعاد عنها ، لا سيما وأن معظم المخاطر التي تحيط بالأسواق المالية تنبع من التعامل بالمشتقات والمستقبليات والخيارات وتبادل العملات ، والعملات الافتراضية .. وهي في معظمها عمليات مقامرة لا يترتب عليها انتقال سلعة أو بضاعة أو زيادة انتاج ، كما لا يترتب عليها تسليم أو استلام وإنما تقوم على تصفية المراكز بشكل يومي بين الرابحين والخاسرين فهي عمليات مقامرة محرمة ، وبالتالي فإن ابتعاد المسلمين أو المؤسسات المالية الإسلامية عن هذه العمليات سوف يجنبها نصف المخاطر التي تتعرض لها الأسواق .
ومع ذلك فإن المستثمر المسلم أو المؤسسات المالية الإسلامية التي تحرص على الاستثمار الآمن ، ومحاولة تجنب الخطر أو التقليل منه بأكبر نسبة ممكنة تتطلب الإلمام بأدوات الكشف عن الخطر وقياسه ومحاولة تجنبه أو نقله أو التخفيف من حدته .
إن الأخذ بمعيار بازل تستفيد منه المؤسسات الإسلامية وغير الإسلامية ، وكذلك معيار كوزو للرقابة الداخلية الحصيفة ، وكذلك مقياس كاميلز لأهم الأدوات المتعلقة بالاستثمارات المالية .
غير أن ما يميز هذه المؤشرات أو المقاييس اعتمادها الكلي على سعر الفائدة ، نظرا لأنه المؤشر الأول لرأس المال على مستوى العالم ، وهذا ما لا ينسجم مع سلوك المؤسسات المالية الإسلامية المفترض أن يكون بعيدا كليا عن سعر الفائدة . غير أن عدم وجود سعر لرأس المال أو عائد حقيقي إسلامي لرأس المال يضطر المؤسسات المالية الإسلامية إلى التعامل مع ما هو شبيه أو بديل عن سعر الفائدة مثل الليبور وغيره .
إن الإسلام يحث على إنظار المعسرين ، ولكنه لا يسمح بجدولة الديون التي تقوم على زيادة الفائدة ، كما يحث على التصدق في حالة عدم القدرة على السداد .. وهو أمر اختياري ، وهو أقرب للتقوى ، كما أخبر الله عز وجل ..
وهذا المثال يشير إلى أن عملية قياس المخاطر وإدارتها والتعامل معها لا يمكن أن تبنى على عوامل مادية فقط كما هو في المؤسسات الربوية ، بل لا بد من وجود نسبة معينة للعوامل الأخلاقية والإنسانية ، التي تنشر في المجتمع روح التضامن والتكافل، دون أن تسمح بالتغافل أو التواكل ، فمطل الغني ظلم ، يحل عرضه وعقوبته ، ولا تصح الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي ، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم .
إن الأخذ بالعوامل المادية من مؤشرات ومقاييس لقياس الخطر ، هو أمر مطلوب قانونا وشرعا ، غير أن وجود نسبة للجوانب الإنسانية والروحية التكافلية هو أمر مطلوب شرعا ، وينبغي أن يكون مطلوبا في التشريعات والقوانين التي يسير عليها العمل المصرفي الإسلامي .

الاجتهاد الفقهي والاجتهاد الطبي أ.د كمال حطاب

14 July 2021

كشفت جائحة الكورونا عن وجود خلل كبير في منهجية الاجتهاد الطبي ، مقارنة بمنهجية الاجتهاد الفقهي ، فمما لا شك فيه أن الاجتهاد الفقهي الإسلامي له منهجية محددة تعتمد الاستقراء وتحرير محل النزاع وحصر الظاهرة أو المسألة المراد بحثها ومن ثم استعراض آراء الفقهاء وأدلتهم ، وفحص الأدلة ومدى قوتها أو ضعفها وإمكانية قبول الاستدلال بها أو غير ذلك ، ومن ثم النظر في آراء الأولين إذا كانت المسألة قديمة أو لها مثيل في مسائل قديمة .. فإن لم يكن لها نظير في التاريخ ، يوازن بين الآراء والأدلة ومن ثم الوصول إلى الرأي الراجح بمسوغات ومبررات شرعية وعقلية وبما يحقق المصلحة المعتبرة شرعا والمتفقة مع المقاصد الشرعية العليا مع مراعاة الأولويات والمآلات .
إن الاجتهاد الفقهي الإسلامي قد وصل مراحل وآليات متقدمة في فقه الموازنات والأولويات والمآلات ، بحيث يستطيع الموازنة بين المصالح والمفاسد ، وترجيح وتقديم المصلحة على المفسدة وفق قواعد وآليات منضبطة .
كما وصل الاجتهاد الفقهي الإسلامي مراحل متقدمة في علم المقاصد ، والاجتهاد المقاصدي الذي يسعى جاهدا إلى الوصول إلى أحكام تحقق المقاصد الشرعية الكبرى الممثلة في حفظ حياة الناس وحقوقهم وأعراضهم ودينهم وأموالهم .. إلخ
أما الاجتهاد الطبي فلا نجد فيه مثل هذه المنهجية ، وقد رأينا ولا نزال نرى تخبط الجسم الطبي في كل مكان حول فيروس كورونا وطبيعته وانتشاره ومدى تحوره والسلالات الجديدة ، وكذلك حول اللقاح ومدى نجاعته وآثاره الجانبية ومدى خطورته وهل هو آمن للجميع .. إلخ .
ولا نكاد نجد مؤسسة أو هيئة طبية تخرج بقرار مبرر منطقيا أو عقليا أو طبيا ، ففي كل قرار تجد له عشرات بل ربما مئات المعارضين من الأطباء قبل غيرهم .. وبالرغم من مرور أكثر من عام ونصف على ظهور هذا الفيروس لا تزال الآراء الطبية في تضارب شديد ، ففي الأمس فقط خرج علينا وزير الصحة الأردني بأن أخذ جرعة ثالثة من أي لقاح إضافة للجرعتين السابقتين من لقاح آخر هو أمر شخصي يقدره كل شخص وفقا لمصلحته . بينما خرجت اليوم منظمة الصحة العالمية تحذر البشرية من خطورة الدمج بين اللقاحات .
إن هذا التخبط يشير بوضوح إلى عدم اتباع منهجية محددة للوصول إلى القرارات والنتائج في المجالس الطبية الرفيعة ولجان الأوبئة الدولية ومنظمة الصحة العالمية ، مما أدى إلى ضعف ثقة العالم بهذه الهيئات الطبية ، وتضارب مواقف الدول تجاه هذا الفيروس .
إن هذا التفاوت الكبير في الموقف من الفيروس ، ومن لقاحاته يشير إلى عوامل أخرى غير مهنية ، فبينما رأى العديد من الأطباء والهيئات الطبية المعتمدة دوليا أن اللقاحات آمنة ولا مشكلة فيها وأنها واقية من الفيروس ، يرى أطباء آخرون أن هذا الكلام ليس دقيقا وأن هذه اللقاحات لم تأخذ الوقت الكافي للتأكد منها وأنها يمكن أن تكون لها أعراض جانبية خطيرة ، ولعل لقاح جونسون أند جونسون من أكثر اللقاحات التي تعرضت للتحذير منه نتيجة الآثار الجانبية الخطيرة الناجمة عنه.
لماذا تسارع الحكومات بفرض اللقاحات إذا كانت الهيئات والمجالس الطبية غير متفقة على رأي علمي موحد . هل هي ضغوط الشركات ، أم ضغوط الإعلام العالمي ، والدعايات المرافقة ؟ ولماذا تتراجع بعض الحكومات عن بعض الإجراءات وتعتبر المسألة أمرا شخصيا ؟ ولماذا لم نجد للهيئات التشريعية أو المجالس النيابية أو لجان الفتوى رأيا واضحا محترما في هذا الموضوع .
من المؤكد أن معظم دول العالم طبقت توصيات أو وصفات منظمة الصحة العالمية كأعلى هيئة طبية عالمية ، غير أن سلوك هذه المنظمة كان مريبا منذ البداية ، عندما أخرت اعتبار الفيروس وباء حتى شهر آذار 2020 ، كان سلوكها مريبا عندما أوصت باعتبار اللقاحات ثم تراجعت عن بعض اللقاحات، وربما يكون للاعتبارات السياسية نصيب في قراراتها ، والدليل انسحاب الولايات المتحدة من المنظمة بسبب هذا السلوك المريب .
كان من المفروض مهنيا أن يثبت يقينا لدى الخبراء وممثلي المجالس الطبية بأن هذا اللقاح مفيد صحيا وأن عدم أخذه يسبب ضررا محققا ، أما متابعة الأجهزة الطبية الدولية والمجازفة بأعمار البشر دون اتفاق طبي أو دليل طبي قاطع فهذا مما لا ينبغي العمل به .
إن مئات ملايين البشر الذين أخذوا اللقاح ، تشكلت لديهم قناعة بأنه أخف ضررا من فيروس كورونا ، ولم تكن القناعة تامة بعدم وجود ضرر من هذا اللقاح حتى الآن .
وبناء على ذلك ينبغي أن تستفيد الجهات الفقهية الطبية من علوم الاجتهاد الفقهي في توصياتها الخاصة بالتعامل مع هذا الفيروس .
كما ينبغي على الهيئات التشريعية وجهات الفتوى الشرعية أن تعتمد رأي الهيئات الطبية المهنية المعتمدة ، وتحذر من الأخذ بآراء مريبة تمثل الشركات العالمية ، وقد تكون لمصالح اقتصادية أو سياسية .
ينبغي على جهات الفتوى أن تجتهد في تحري الهيئات الطبية المهنية المعتمدة ، وأن تصدر الفتاوى بعد قناعة تامة ، توضح وتفصل هذه المسألة باعتبار أن حفظ النفس على رأس الضروريات والمقاصد الشرعية العليا ، وأي تهديد للنفس فيه تهديد للحياة جميعا ، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ..

الرأسمالية المتوحشة أ.د كمال حطاب

11 July 2021

عندما تقف الرأسمالية العالمية وأصحاب رؤوس الأموال مع الصهاينة المعتدين ، الذين يقتلون المدنيين في غزة ، ويدمرون البيوت والأبراج السكنية والإعلامية ، ويقصفون المستشفيات والمدارس وحتى مراكز فحص الكورونا ، عندئذ لا يمكن أن توصف هذه الرأسمالية إلا بأنها رأسمالية مجرمة متوحشة .
عندما تطالب شركات رأسمالية بعض لاعبي كرة القدم أو بعض الممثلين أو الممثلات الذين رفعوا علم فلسطين أو أعلنوا تضامنهم مع فلسطين ، عندما تطالبهم بالاعتذار وتطالب جهات عملهم بمعاقبتهم ، عندئذ لا يمكن أن توصف هذه المطالبات إلا بأنها رأسمالية مجرمة متوحشة .
وعندما يتعاطف الناس مع حرب الإبادة الجارية ضد الفلسطينيين ، على مواقع التواصل الاجتماعي ، وتقوم إدارات هذه المواقع بحذف هذا التعاطف أو التعليقات أو الصور الفاضحة للجرائم الصهيونية . عندئذ لا يمكن أن توصف هذه الإجراءات إلا بأنها رأسمالية مجرمة متوحشة خارجة عن القانون الدولي والإنساني .

في التسعينات قرأت كتاب ” من يجرؤ على الكلام ” لبول فيندلي ، والكاتب هو عضو كونغرس أمريكي فاز بمقعده في الكونغرس ثلاث مرات قبل أن يسمع بفلسطين أو يتعرف على عدالة القضية الفلسطينية ويناصرها ، فلما فعل ذلك خسر مقعده في الكونغرس بعد تدخل اللوبي الصهيوني ضده . يكشف الكتاب عن حجم هذا اللوبي ودوره في حشد الدعم لدولة الاحتلال ، وكيف يُهدّد أعضاء الكونغرس من خلال الشركات الرأسمالية التي تدعم المرشحين أو تحجب الدعم عنهم ، إذا لم يكونوا مناصرين للصهاينة . إنها شركات رأسمالية مجرمة .
للمرة الثالثة خلال أقل من عشر سنوات ، تتكرر جريمة الإبادة الوحشية في غزة أمام مرأى العالم وسمعه .. إبادة للبشر والشجر والحجر ..
للمرة الثالثة تتكشف عدالة ما يطلق عليه الشرعية الدولية التي ترى بعين واحدة ، وتكيل بمكاييل متعددة ، العدالة التي تدين الضحية وتقف مع المجرمين .
للمرة الثالثة تكتشف شعوب العالم ، كم هو حجم التغول الصهيوني على مراكز صنع القرار في العالم ، وكم هي هذه المراكز ظالمة ومتحيزة ، لا يهمها سوى تحقيق مصالحها ، بعيدا عن المعايير الأخلاقية أو الإنسانية .
أكثر من 700 قرار من قبل مجلس الأمن والأمم المتحدة تدين دولة الاحتلال ، ومع ذلك لم يطبق منها أي قرار ..
ولعلها المرة الأولى التي ترى شعوب العالم ما يجري في فلسطين من جرائم وحشية ، دون أن تتمكن الأدوات الإعلامية للصهاينة من تغطية الحقيقة ، ولعلها المرة الأولى التي يتعاطف معظم شعوب العالم في مختلف القارات مع القضية الفلسطينية ، وتطالب بإحقاق الحق ، وتحرير فلسطين .
غير أن أثر هذا التعاطف لم يكن على قدر الجرائم الوحشية التي ارتكبت ، إن المطلوب في حده الأدنى هو مقاطعة الشركات الرأسمالية الداعمة للصهيونية ، وفضح أصحاب هذه الشركات الذين يتظاهرون بالإنسانية والرحمة ، وهم في الحقيقة أول من يدعم السلوك الإجرامي للصهاينة ، وبالتالي هم شركاء في الجريمة يجب معاقبتهم والتشهير بهم وبشركاتهم .
أفرزت الحرب الأخيرة ما أطلق عليه النضال الإلكتروني عندما تحول معظم الناس في فلسطين وغيرها إلى مناضلين على مواقع التواصل الاجتماعي يدعمون الحق ويقفون ضد المعتدي ، وقد برز عدد من النشطاء في فلسطين والعالم في هذا المجال ، إن المطلوب أن تتحول فلسطين إلى برامج تلفزيون الواقع عبر كافة المنصات من أجل فضح المعتدين ومن يناصرهم من شركات رأسمالية كبرى ، وكشف الحقيقية بشكل دائم .
إن المطلوب في المرحلة القادمة التركيز على رحيل الاحتلال وإعادة الحق إلى أصحابه ، فهذا الاحتلال لا يعرف سوى لغة المقاومة ، ولا يخضع إلا لمن هو أقوى منه عسكريا ، وإعلاميا ، وإلكترونيا ، وتفاوضيا .
إن القوة التفاوضية هي سلاح مهم عندما تكون بأيدي الضاغطين على الزناد .. أما إذا كانت بأيدي المتاجرين بالقضية واللاهثين وراء مصالحهم فإنها لن تحقق شيئا سوى الخزي والعار والخيانة .

All Rights Reserved © www.KamalHattab.info  |  [email protected]