عودة إلى الصفحة الرئيسية

الاقتصاد الإسلامي وراكبو الأمواج أ.د كمال حطاب

18 January 2020

في بدايات دراستنا للاقتصاد الإسلامي في بداية الثمانينات من القرن الماضي ، كان لدينا أستاذ فاضل ، جاد في طروحاته وأفكاره ، أصيل في عطائه ، مخلص في أدائه ، وكان يكرر على مسامعنا كلما رأى كثرة المتحدثين باسم الاقتصاد الإسلامي ، وكثرة المؤلفات والكتب التي تنزل إلى الأسواق ، بأن الاقتصاد الإسلامي أشبه بموجة يركبها كل مغامر .
وفي الوقت الحاضر وبعد ظهور عشرات بل مئات المنتديات المتحدثة باسم الاقتصاد الإسلامي ومئات بل آلاف المؤتمرات المنعقدة باسم الاقتصاد الإسلامي وما يندرج تحته من صيرفة إسلامية ووقف وزكاة وأموال أيتام .. إلخ ، وظهور مئات بل آلاف الشهادات العليا الماجستير والدكتوراه باسم الاقتصاد الإسلامي ، ماذا يمكننا أن نقول حول تلك العبارة ؟ ألا يزال يوجد بعض راكبي الأمواج في دراسة الاقتصاد الإسلامي ؟ هل أصبح الدارسون للاقتصاد الإسلامي في الوقت الحاضر أكثر واقعية ممن سبقهم من الدارسين ؟ هل اتضح أمام الدارسين لهذا التخصص مستقبل التخصص وأهدافه ووظائفه ؟ هل وجدت وظائف محددة متنوعة يمكن أن يشغلها الدارسون لهذا التخصص ؟
لا شك أن التعليم في هذا العصر تحركه قوى السوق كما تحرك كافة الأنشطة الاقتصادية والعلمية وغيرها ، وهذا يعني أن الطلب على هذا التخصص لا يزال في ازدياد نظرا لازدياد قيمته أو قوته في السوق .. ولا شك أن الفعاليات التعليمية سوف تتراجع عن هذا التخصص عندما يصبح عرض الخريجين أكبر من الطلب عليهم .. وهذا التحليل يكون في حالة ثبات العوامل الأخرى .. أما في ظل السياسات التعليمية التي تمارسها وزارات التعليم العالي في الدول العربية، فإن قيام الوزارة أو الحكومة بتوظيف الخريجين من أي تخصص سوف يزيد الطلب عليه ، وامتناع الحكومة عن التوظيف سوف يفقد هذا التخصص قيمته .. وهكذا نجد أن قوى السوق لا تستطيع أن تعمل في ظل سياسات حكومية تفضيلية لبعض التخصصات على تخصصات أخرى. ومما يؤسف له أن معظم حكومات الدول العربية لا تعطي أولوية حتى الآن ، لدارسي تخصص الاقتصاد الإسلامي.
وبناء على ما تقدم ، فإنه لا يمكن أن يترك أهل التخصص مخرجات تخصصهم لقوى السوق أو لسياسات الحكومات أو لحركة الأمواج ، فلا بد من وجود مؤشرات تقيس نسبة النمو في التخصص وفروعه التطبيقية، ومدى حاجة المجتمع له، ولا بد لأهل التخصص من ابتكار فروع تطبيقية لهذا التخصص تستوعب الخريجين وتعمل على توظيف مهاراتهم في خدمة المجتمع، ولا بد لأهل التخصص أن يتحكموا في قرارات التوسع أو التضييق في هذا التخصص، بحيث لا يتم السماح بالتوسع في أوقات الإشباع والركود، ويسمح بذلك في أوقات الحاجة والطلب المتزايد.
إن مسؤولية توظيف الخريجين والاستفادة من دراساتهم في خدمة المجتمع، هي جزء من مسؤولية المؤسسات الأكاديمية التي تبنت هذا التخصص، كما أنها جزء من مسؤولية الأكاديميين ومراكز الدراسات التي تقوم بمتابعة وتقييم وتطبيق هذا التخصص.
ولن يتطور أي علم إذا لم تكن الجوانب السابقة محل عناية واهتمام من قبل الأكاديميين ومؤسساتهم ومراكز البحوث والدراسات، فضلا عن اهتمام الحكومات وتبنيها لهذا التخصص.

اجتماعات البنك الدولي ومؤسسات الصناعة المالية الإسلامية أ.د كمال حطاب

10 January 2020

البنك الدولي للإنشاء والتعمير سيء السمعة ، عدو الفقراء في العالم ، كُتبت عنه عشرات بل مئات الكتب تفضح دوره المشبوه في حماية أصحاب النفوذ المالي واستغلال الشعوب ، دون أن يكترث لحال الفقراء في العالم .. مشاريع البنك الدولي في كثير من دول العالم ، كما ورد في كتاب ” صناعة الجوع ” والتي كانت موجهة لحفر الآبار ودعم القطاع الزراعي ، ذهبت كلها لصالح أصحاب النفوذ المالي والسياسي والأمني ، وكذلك وردت أمثلة أخرى في كتاب فخ القروض الخارجية ، وكتاب ” كيف يموت النصف الآخر من العالم ” وغيرها من الكتب والدراسات .
هذا البنك الدولي تحاول مؤسسات الصناعة المالية الإسلامية تجميل صورته وصورتها بعقد اجتماعات مشتركة دورية معه ، ولا أدري أيهما يجمل أم يقبح الآخر ؟ المجلس العام للبنوك الإسلامية ، مجلس الخدمات المالية الإسلامية ، هيئة التحكيم المالي الإسلامي ، أيوفي ، البنك الإسلامي للتنمية .. إلخ ما لهم وللبنك الدولي سيء الذكر ؟ هل يمكن لهذه المؤسسات أن تعدل من سلوك البنك الدولي ؟ أو تشرح صدره لمصلحة الفقراء ؟ أو تعزز القيم والأخلاق في سلوكياته ؟ هل يمكن تعديل سلوك المرابي الأكبر في العالم ؟
مما لا شك فيه أن البنك الدولي يحاول تجميل صورته القبيحة والتي انغرست في أذهان الشعوب الكادحة منذ تأسيسه حتى وقتنا الحاضر .. فهو يحاول إضافة معايير اجتماعية وبيئية أحيانا وأحيانا أخرى يرفع شعار حقوق الإنسان وغالبا ما كان يرفع شعار مكافحة الفقر ، ويدق نواقيس الخطر من أجل محاربة الفقر .. غير أن الشعارات والكلمات لم تكن مدعومة بالأفعال دائما .. فهل هناك تغيرات في الوقت الحاضر؟ وهل شعر البنك الدولي أخيرا أنه بحاجة إلى لمسات إنسانية تجميلية ؟
أما مؤسسات الصناعة المالية الإسلامية فإذا التمسنا لها العذر فإننا نقول ربما تحاول تذليل العقبات التي تعترضها على المستوى الدولي من خلال هذه الاجتماعات ، وربما تحاول تدويل التمويل الإسلامي ليكون له صفة دولية ، وربما تحاول أن تكون مؤثرة على مستوى التسويات والمدفوعات الدولية ، وربما تحاول أن تثبت للعالم الغربي بشكل خاص صدق نواياها وحسن تعاملها وعدم تمويلها أنشطة مشبوهة ، وربما كانت تعمل على أن تكسب مقاعد دائمة في المحافل المالية الدولية ، وربما كانت تحاول إقناع البنك الدولي بإلغاء التعامل بالفائدة والتعامل بعوائد المشاركة !! .. هذه بعض المبررات ، وربما يوجد غيرها .
غير أن مثل هذه الاجتماعات تشوبها العديد من الشبهات ، منها أن هذه المؤسسات المالية الإسلامية تضفي على البنك الدولي المشروعية أمام شعوب وحكومات العالم الإسلامي أو هي تشاركه في الظلم العالمي الذي يمارسه ولا يزال مستمرا في ممارسته ، كما أنها تشاركه في مشروعية تطبيق الفوائد الدولية المركبة واستغلال ونهب شعوب العالم الثالث .
إن الشعارات التي تعقد تحتها هذه الاجتماعات هي شعارات براقة ظاهرها الحرص على الكفاءة والحوكمة والشفافية والإفصاح والمهنية والمسؤولية الاجتماعية والبيئية ، ولكنها في باطنها تخفي الحرص على استرداد الديون وفوائدها المضاعفة بأقصر الطرق وأقل الجهود .. وتقديم القروض الدولية لمن تتوفر فيه إمكانات الوفاء بهذه الشروط ..
إن معظم المعايير المالية الدولية لم توضع بقصد تحسين حياة البشر أو الارتقاء بحقوق الإنسان أو التكافل العالمي وإنما وضعت بقصد ضمان تحقيق أعلى الأرباح واستمرارية كفاءة المؤسسات بتقديم القروض مع الحد الأدنى من المخاطر واستمرارية سداد الديون مع الحد الأعلى من الأرباح للدائنين .
وبناء على ما تقدم ، فإنه لا بد من إعادة تقييم للمشاركة في هذه الاجتماعات ، والمحافظة على استقلالية الهوية الإسلامية لهذه المؤسسات المالية الإسلامية .

البنك المركزي الكويتي والرقابة الشرعية أ.د كمال حطاب

01 January 2020

البنك المركزي الكويتي والرقابة الشرعية
أ.د كمال حطاب
ليس من قبيل المبالغة اعتبار كلمة الدكتور محمد الهاشل محافظ البنك المركزي الكويتي في افتتاح مؤتمر شورى الثامن ، من أهم الكلمات التي قيلت في تنظيم وتقييم المصرفية الإسلامية في عام 2019 .
فقد أثارت كلمة الدكتور الهاشل ، وما زالت تثير العديد من ردود الفعل ، التي امتازت في معظمها بالثناء على الجرأة والصراحة والمكاشفة لواقع الرقابة الشرعية على البنوك الإسلامية في العالم .
ذكر الدكتور الهاشل أنه من الظلم لهيئات الرقابة الشرعية أن يكون ثمانية أشخاص متواجدين في أكثر من ثلاثين هيئة شرعية ، كما أن ثلاثة من هؤلاء الثمانية هم أعضاء في أكثر من سبعين هيئة شرعية ، وعزا ذلك إلى ندرة من يجمع بين العلم الشرعي وعلم الاقتصاد والمالية ، مما يفهم منه بأن هؤلاء هم المتخصصون المتفردون بهذه العلوم ..
وقد يكون هذا الكلام دقيقا بالنسبة لبعض أعضاء الهيئات الشرعية ، ولكن المتأمل في السير الذاتية للأعضاء الأكثر انتشارا في الهيئات الشرعية ، يجد أن معظم هؤلاء من خلفية شرعية وليس لديهم أية شهادات مصرفية أو مالية أو اقتصادية .. وربما يكون الجامع بينهم شهرتهم الدينية في بلادهم أو كثرة الفتاوى المنشورة لهم ، وقد حاولت بعض البنوك المركزية كالبنك المركزي الماليزي ، معالجة هذه المشكلة ، وذلك بمنع أي مراقب شرعي من الاشتراك بأكثر من ثلاث هيئات شرعية ، ويبدو أن هذا الحل هو العلاج المناسب ، خاصة في ظل تفاقم عملية احتكار الرقابة الشرعية على مستوى العالم .
ولعل من أبرز ما ورد في كلمة المحافظ الهاشل أنه دعا إلى قيام المالية الإسلامية على مبادئ الاقتصاد الإسلامي وليس على المقاصد والغايات ، ومعنى ذلك أن تكون المالية الإسلامية مبنية على أصول ومبادئ إسلامية ولا تكون مجرد متوافقة مع المبادئ الإسلامية ، وهذه دعوة صريحة واضحة إلى الكف عن الحيل والتكييفات الشرعية التي استفحل انتشارها ، فالأصل أن يكون المتخصصون في المالية الإسلامية مبدعين ومبتكرين ، لا أن يكونوا مقلدين أو مكيفين للعقود والمنتجات الربوية فيعملوا على تكييفها أو جعلها متوافقة مع الشريعة الإسلامية .
واستكمالا لهذه الملاحظة دعا الهاشل إلى تنويع المنتجات الإسلامية وإحياء عقود المشاركة والاستصناع والسلم بدلا من الاقتصار على المرابحة والإجارة ، ومعظم التمويل يتركز على سلع استهلاكية مستوردة مما يفقد هذه المصارف أي دور إيجابي في عملية التنمية ، كما أنه تمويل ضار بالبيئة ..
وفي مسألة الإضرار بالبيئة أشار إلى توجه بعض الدول التي تنتج زيت النخيل إلى اجتثاث الغابات المطرية من أجل زراعة أشجار زيت النخيل وذلك لتلبية طلبات التورق التي تعتمد بشكل كبير على زيت النخيل .. مما ينجم عنه أضرار كبيرة على البيئة .
ولست أدري كيف ترضى الهيئات الشرعية ببدعة زيت النخيل مع يقينهم أنه لا أحد من المتورقين يستلم زيت النخيل ، وإنما هي عمليات تغطية بنقل الزيت من الصهريج أ إلى الصهريج ب ، ثم إعادته مرة أخرى ، من خلال سندات أو فواتير حكمية تمثل عملية البيع والشراء يتم إصدارها وإلغاؤها يوميا ..
وفي الختام أقول إن البنك المركزي وبصفته بنك البنوك أي المسؤول عن البنوك كافة ، يستطيع أن يصدر تعليمات للحد من التورق والمرابحة ، كما أن له أن يصدر تعليمات تنظم سوق الرقابة الشرعية ولا تسمح لعضو الهيئة الشرعية أن يكون عضوا في ثلاثين أو سبعين أو مئة هيئة شرعية ، كما أن للبنك المركزي أن يتشدد في الحد من المنتجات المتوافقة مع الشريعة ، ويشجع المنتجات المنبثقة من الشريعة ..
وقد خطا بنك الكويت المركزي خطوات كبيرة في الجوانب السابقة وغيرها ، حيث صدرت تعليمات لاعتماد التدقيق الشرعي الخارجي .. كما اشترط على من يمارس التدقيق الحصول على شهادة تدقيق خاصة من البنك المركزي الكويتي .. وهذه خطوات سليمة مباركة وربما تعقبها خطوات أخرى من أجل تطهير سوق المصرفية الإسلامية من الحيل والخزعبلات ، وإعادته إلى أصول الصيرفة الإسلامية الحقيقية .

الحرية والتنمية أ.د كمال حطاب

26 August 2019

الحرية والتنمية
أ.د كمال حطاب

حقق النبي محمد صلى الله عليه وسلم في مكة والمدينة أعلى درجات التقدم الإنساني التي عرفتها البشرية ، وذلك بوصول الإنسان إلى أعلى درجات الرقي الروحي والكرامة الإنسانية .
ولم يتحقق ذلك صدفة أو بطرق سهلة آمنة مفروشة بالورود والرياحين ، وإنما تحقق بالإعداد والبذل والتضحية والفداء .
عمل النبي صلى الله عليه وسلم على تحقيق التنمية من خلال تحرير الإنسان من عبودية الإنسان والارتقاء به نفسيا ومعنويا وإعلاء شأنه باتصاله بالله عز وجل ، وفوق ذلك بتوجيهه نحو استثمار طاقاته بما ينفع نفسه وأهله ومجتمعه .
إن التنمية الحقيقية ليست تنمية التبعية للغرب أو الشرق ولا تنمية المديونيات التي يستفيد منها المتنفذون على حساب شعوبهم ولا تنمية الاستهلاك الترفي الذي يزيد في الانهزامية والاعتماد على الآخرين . وإنما التنمية الحقيقية هي تنمية الإنسان بحرية وكرامة ، تمكنه من تحقيق كفايته الذاتية بالاعتماد على النفس ، واستمداد الطاقة من تاريخه وعقيدته وقرآنه وسنة نبيه .
إن التنمية تتطلب وجود الدافع والحافز على الإنجاز والتفوق ، وليس بالضرورة أن يكون الحافز دنيويا بحتا ، وإنما قد يكون من خلال ثوابه الأخروي ، إيثار مصلحته الدائمة على المصلحة الفانية ، وهذا ما عمل عليه النبي صلى الله عليه وسلم عندما سوق لسلعة الله بقوله ” ألا إن سلعة الله غالية ، ألا إن سلعة الله الجنة”
إن التنمية تتطلب الإعداد المعنوي قبل الإعداد المادي ، فالروح المعنوية والقيم والمبادئ هي التي تدفع الإنسان إلى العمل والتضحية والإخلاص والتفاني في سبيل وطنه وأمته .
إن من أهم متطلبات التنمية تعزيز ثقافة الحرية والكرامة والتحدي ، فالإنسان الذليل المقهور لا يمكن أن يحقق تنمية ولا تقدم ولا رفاهية ، وإنما يحقق مزيدا من الخنوع والذل والتخلف .
إن التنمية الحقيقية تتطلب العزة والكرامة التي تولد الحرية والدافعية إلى العمل والإنجاز والتقدم ، وبدون هذه المعاني لا يمكن أن تتحقق التنمية .,
ها هي اليابان في العصر الحديث وصلت إلى الحضيض في الحرب العالمية الثانية ، بعدما ضربت بالقنابل الذرية فتحطمت واستسلمت ، فماذا حدث بعد ذلك، سرت فيها روح الكرامة والعزة والتحدي الاقتصادي والعلمي حتى تفوقت في الوقت الحاضر على أمريكا في كثير من الصناعات .
وها هي ألمانيا خرجت من الحرب محطمة مهزومة ، ولكن روح الإصرار والتحدي جعلتها تعيد بناء ما دمرته الحرب وتواصل مسيرة التقدم .
إن صناعة الأجيال الحرة الكريمة ، وغرس قيم التحدي والكرامة والحرية والاستقلال ، والتخلص من كافة أشكال التبعية والانهزامية ، هي الخطوات الأولى للتنمية في أي مجتمع بشري .

التغيير والتنمية أ.د كمال حطاب

26 August 2019

التغيير والتنمية
أ.د كمال حطاب

لعل من أهم المعاني اللغوية للتنمية ، الزيادة الإرادية الإيجابية لشيء من الأشياء المادية والمعنوية ، وفي مجال الإنسان ، فإن زيادة الإيجابيات والتقليل من السلبيات أو زيادة الخير والتقليل من الشر ، هو من المعاني التي تقترب كثيرا من هذا المفهوم .
ومن المصطلحات الإسلامية التي تقترب أو ترادف مصطلح التنمية ، مصطلح الإعمار وقد أشار ابن تيمية إلى أن مفهوم الإعمار يشتمل على : الإقبال على الخير بالارتقاء بالصالح كما ونوعا . كما يشمل الامتناع عن الشر : بعدم إفساد الصالح ، وعدم الارتقاء بالفاسد كما ونوعا .
إن هذه المعاني السابقة تشير إلى ضرورة توفر الإرادة والعزيمة والخطوات العملية التي تحدث التغيير الإيجابي المطلوب .
إن التغيير يتطلب معرفة المنظومة القيمية والمفاهيمية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية والتربوية والاقتصادية التي يعيشها الناس في أي مجتمع ، ومن ثم يمكن أن تنجح نظريات التنمية وآلياتها بعد الإلمام بهذه المكونات جميعا ، ومراعاتها في تطبيق آليات التنمية .
وبدون ذلك فلن تتحقق التنمية ولا شروطها ، ولا آثارها ولن نجد للمفاهيم والنظريات والاستشارات التنموية الدولية أي أثر أو صدى ..
إن من أهم مستلزمات تحقيق التنمية وجود الإرادة للتغيير ، ولذلك جاء قوله تعالى ” إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ” ، ولن يوجد التغيير ما لم توجد قوة دافعة للتغيير ، ولذلك كان الأمر بالإعداد والاستعداد في قوله تعالى ” وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ”
والإعداد في الآية يشتمل على ثلاث مراحل ، المرحلة الأولى تشتمل على تهيئة الظروف المناسبة للموارد البشرية وإعدادها وتزويدها بأعلى درجات التدريب والمهارة بما يزيد من كفاءتها وقدراتها ، كما يشتمل على اعداد البنية الأساسية بما يتناسب مع المشروعات اللازمة للنهوض والارتقاء بالمجتمع بما يمكنه من تحقيق الاكتفاء الذاتي في كافة المجالات الأساسية الصناعية والزراعية والتجارية .
أما المرحلة الثانية من مراحل الإعداد : فتشمل استفراغ الوسع واستنفاذ الطاقة : وذلك باستخدام الموارد البشرية والطبيعية الاستخدام الأمثل الذي يحقق أفضل إنتاجية مع المحافظة على حقوق الأجيال القادمة من الموارد . ومعنى ذلك ضرورة استخدام الموارد الطبيعية والمالية والبشرية بأقصى طاقة ممكنة ، ولكن دون أن يؤدي إلى الاستنزاف أو النضوب أو الاستخدام الجائر لأن للأجيال القادمة حقوقا في هذه الموارد ..
وفي المرحلة الثالثة : الوصول إلى أقصى درجات القوة :فقوله تعالى ” ما استطعتم من قوة ” يعني كافة أشكال القوة ، القوة العلمية والتكنولوجية ، القوة الاقتصادية ، القوة العسكرية ، وحتى القوة التفاوضية التي تتطلب التنسيق والتشاور ، واكتساب كافة المهارات الدبلوماسية والسياسية والاجتماعية والثقافية والتربوية والاقتصادية والمالية ..
إن التغيير الذي يؤدي إلى التنمية هو التغيير الذي يبدأ بالإعداد القوي في كافة المجالات ، فبدون كسب القوة بكافة أشكالها ومصادرها لن تحدث التنمية .
إن وجود الإرادة والعزيمة على الإعداد والتغيير هو الشرط الأول الذي يمكن الانطلاق منه لتحقيق التنمية ، أما الاعتماد على الوصفات المستوردة والقروض الدولية فلن تحقق تنمية أو تقدما وإنما تبعية وتخلف وهوان .

All Rights Reserved © www.KamalHattab.info  |  [email protected]