عودة إلى الصفحة الرئيسية

أموال لا تأكلها النيران .. أ.د كمال حطاب

14 January 2023

يردد بعض الناس عبارة سمعتها من أكثر من شخص ، وهي أن لديه أموالا تكفيه لولد الولد .. أو أن لديه أموالا لا تأكلها النيران ..إلخ فهل هذه عبارات مقبولة شرعا ؟ ..
مما لا شك فيه أن مثل هذه العبارات إذا قيلت في مجال حمد الله وشكره وبيان كثرة نعمه على العبد فلا شيء فيها ، ولكن الواضح أن أغلب من يطلق هذه العبارات يطلقها في مجال التفاخر والاعتداد بالنفس ، وعدم حاجته لأحد من البشر ، وليس في ذلك أيضا انحراف أو بعد عن الشريعة إذا كان يؤدي حق هذا المال ، من شكر لله واعتراف بنعمه وفضله .. مع ما في هذه العبارة من مبالغة وعدم واقعية .
المشكلة تظهر عندما يكون إطلاق هذه العبارات يتضمن التمرد والجحود لنعم الله والانتقاص من الآخرين ، وإرجاع الفضل في تحصيل هذا المال لجهده وذكائه وخبرته وامتلاكه طاقات لا يمتلكها معظم الناس .. عندها يكون حال هذا الشخص كحال قارون عندما نصحه قومه بشكر الله وعدم الفساد ، فرد عليهم بإرجاع الفضل كله لعلمه وذكائه ” قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ” ( القصص ، 78)
فكان عاقبته الخسف به وبداره وكنوزه التي لا يستطيع الرجال الأقوياء حمل مفاتيحها لضخامتها .. وجعله عبرة لمن يعتبر .
فهؤلاء الذين يرددون كلام قارون ، ويرجعون الفضل لعقولهم وجهودهم دون شكر الله واعتراف بفضله وكرمه .. يستحقون مصيرا كمصير قارون ..
إن حب المال وتكثيره هو غريزة إنسانية محترمة ، عندما يكون كسب المال وإنفاقه وتثميره وإدارته بطرق حلال وأدوات وأساليب مشروعة .. أما المفاخرة بالمال وكثرته والتباهي على خلق الله بكثرة المال فليس منهجا مقبولا إسلاميا وإنسانيا ..
ومن جهة أخرى فإن جمع المال وتكثيره ليس أمرا محمودا دائما ، ولا يعود بالخير على صاحبه ، ما لم يلتزم بضوابط شرعية ، فلا بد أن يخرج زكاته أولا ، ثم يؤدي ما على المال من حقوق ، والحقوق تشمل النفقة على الأهل والأقارب وكل من يلزمه نفقته ، حتى ولو كان في أقصى عشيرته ، إذا كان من الممكن أن يرث منه لو كان الوضع معكوسا لقوله تعالى ” وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَٰلِكَ” ( البقرة ، 233 ) كما تشمل حقوق المال ، القرض الحسن ، والعارية ، إضافة إلى تشغيل المال ، فلا يصح أن يبقى المال محبوسا دون تشغيل لأنه يمكن أن يدخل في دائرة الاكتناز .
ومن تتبع مواقف النبي صلى الله عليه وسلم وسلوكه في تعامله مع المال النقدي فإننا نجد أنه لم يكن يحتفظ بالنقود أو لا يتركها تبيت عنده ، وكذلك كثير من الصحابة ، وهذا يشير إلى أن الأصل تشغيل المال وإنفاقه في السوق استهلاكا واستثمارا دنيويا وأخرويا ، وبمعنى آخر لا بد أن تكون الأموال النقدية متحركة ، وكلما ازدادت سرعة دوران النقود بمعنى انتقالها من يد إلى أخرى كلما ازداد المجتمع تشغيلا وإنتاجا وتقدما ، وكلما ازداد حبس النقود وكنزها في البنوك كلما ازداد المجتمع انكماشا وكسادا وتخلفا …
إن من يملك مالا لا تأكله النيران في ظنه ، سوف تأكله نفقات أصغر مرض قد يصيب الإنسان ، وإذا لم تأكله نفقات المرض ، وبقي المرض فإنه لا نفع فيه لصاحبه .. ولذلك فإن الأفضل من هذه العبارة هي عبارة الحمد لله والشكر لله ، لأنه هو واهب النعم وواهب المال ، وهو المالك الذي لا تنفد خزائنه ” وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ ” ( المنافقون 7)

علماؤنا بين التشريف والتشهير .. أ.د كمال حطاب

11 January 2023

ضجت وسائل التواصل الاجتماعي قبل أيام بخبر وفاة العالم الجليل أستاذنا الدكتور محمد نعيم ياسين رحمه الله وأدخله فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .. وكثرت المقالات والخطابات والمدائح والأشعار في ذكر سيرته الطيبة ومواقفة الثابتة وعطائه ومؤلفاته وما تركه من آثار علمية وفكرية ومبادئ تربوية وسيرة عطرة في نفوس كل من عرفه من زملائه وطلابه ومحبيه ..
لقد كان الشيخ رحمه الله فريدا بشخصيته الأبوية الحانية ،وبروحه الأخوية المتواضعة ، كما هو فريد بمواقفه العلمية القوية ، ومبادئه الثابتة .. وأذكر فيما يلي بعض هذه المواقف ، من باب الأسوة والاقتداء ، وكذلك للدرس والعبرة ..
شاركت مع الشيخ رحمه الله مناقشة رسالة دكتوراه في الجامعة الأردنية ، وكان رئيس اللجنة أو المشرف يرى أن يعطي لكل عضو من أعضاء اللجنة مدة نصف ساعة لكي يبين ملاحظاته ، فقال له الشيخ رحمه الله أنا قرأت هذه الرسالة ولدي ملاحظات ربما تستغرق ساعتين أو أكثر ، فإن شئتم أعطيتموني الفرصة للمناقشة وإلا دعوني أنسحب فلا حاجة لكم بي .. وما كان من رئيس اللجنة وأعضائها إلا أن قبلوا بشرط الشيخ وكانت ملاحظات دقيقة استفاد منها الطالب كما استفاد أعضاء اللجنة جميعا .. وهو موقف يؤكد حرص الشيخ الشديد على العلم والعلماء وعلى التدقيق والتصحيح إلى أفضل درجة ممكنة .
وفي مجال البنوك الإسلامية ، فقد أخبرني رحمه الله بأنه كان أحد أعضاء اللجنة الشرعية لأحد البنوك الإسلامية ، ولما وجدهم لا يستمعون لملاحظاته ومحاولاته لتصحيح الأخطاء والمخالفات انسحب من اللجنة وقدم استقالته من تلك اللجنة وأعاد أو تبرع بما صرفوه له من مكافآت ..
كما رافقت الشيخ رحمه الله في عدد من المؤتمرات، وفي كل مؤتمر كنت أراه ممسكا دفترا مليئا بالملاحظات، فلما سألته عن ذلك قال بأنه لا يترك بحثا دون قراءة وتدقيق، ولديه ملاحظات وتعقيبات وتصحيحات لمعظم البحوث المشاركة، وهذه همة عالية وحرص شديد قلما يوجد عند غيره.
إن ما ذكر بحق الشيخ رحمه الله قليل جدا عند كل من عرفه ، فهو يستحق التكريم والتشريف والإشادة عن جدارة في حياته قبل مماته ، كان يستحق أن يكون له مكتب دائم في الجامعة وكرسي دائم باسمه أو جائزة باسمه ، غير أنه العقوق المنتشر في هذا الزمان ، عقوق الوالدين ، وعقوق الأرحام ، وعقوق العلم والعلماء..
إن مكانة العلماء في مجتمعاتنا العربية والإسلامية لا تتناسب مع المكانة والمنزلة التي أرادها الله عز وجل عندما قال ” إنما يخشى الله من عباده العلماء ” ولا تنسجم مع وصايا النبي صلى الله عليه وسلم حول مكانة العلم ومكانة العلماء ، خاصة في هذا الزمان الذي أصبح فيه علماء الإسلام محل تشهير ونقد وتجريح مهما كانوا معتدلين أو وسطيين ، وأصبحت التهم جاهزة معلبة أمام أي رأي يصدر من عالم ، اتهام بالرجعية والتطرف وربما الإرهاب ، واتهام بالأخونة والسلفية والجهادية والصوفية والكلامية … إلخ كل هذه الألقاب أصبحت تهما جاهزة تلصق بأي عالم أو دارس للشريعة ، إذا ما قال قولا ينكر فيه ممارسات القوم وما اعتادوا عليه من منكرات وما ألفوه من سلوكيات تخالف صحيح الدين بل تخالف الفطرة التي فطر الله الناس عليها ..
إننا في الغالب لا نوقر كبارنا ولا نحترم علماءنا .. ولا نحفظ لهم مكانتهم وكرامتهم .. إلا بعد أن يفارقونا، نسأل الله لأستاذنا الحبيب الرحمة والمغفرة، وأن يسكنه الله فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

هل صندوق النقد الدولي بريء في حالة الأردن ؟؟ أ.د كمال حطاب

01 January 2023

في الثمانينات من القرن الماضي ، وفي مرحلة الماجستير بالتحديد ، درسنا كتاب محمد زكي شافعي مقدمة في العلاقات الاقتصادية الدولية وكتاب المنظمات الدولية لحسين عمر وغيرها من الكتب في مادة الاقتصاد الدولي والمنظمات الدولية ، وقد كان من أكثر ما يلفت النظر ويثير الدارسين موضوع صندوق النقد الدولي ، وقد أثارني هذا الصندوق بشكل خاص عندما أعددت رسالتي للماجستير حول التكامل النقدي الإسلامي ، وتعرفت على دور الصندوق الحقيقي في زيادة إفقار الدول الفقيرة وزيادة غنى الدول الغنية ..
وقد كنت كتبت مقالا عام 2003 بعنوان ” مطالبنا من صندوق النقد ” نُشر على موقع إسلام أون لاين في ذلك الوقت ، وهو موجود على موقع موسوعة الاقتصاد والتمويل الإسلامي https://iefpedia.com/arab/?p=633 وضحت فيه طبيعة الشروط التي يضعها صندوق النقد الدولي على الدول النامية من أجل ضمان قروض الأغنياء والتي تشمل رفع الدعم عن السلع الأساسية وتخفيض الإنفاق الحكومي والخصخصة .. إلخ .
غير أن ما يلفت النظر في حالة الأردن ، ومن خلال قراءة ما ورد في المراجعة الخامسة على موقع الممثل المقيم لصندوق النقد الدولي في الأردن ، أن التوصية برفع الدعم عن أسعار المحروقات ترافقت مع التوصية بدفع بدل نقدي لمحدودي الدخل ولمن لا يستطيع تحمل الأسعار الجديدة ؟ فلماذا لم تقم الحكومة الأردنية بتطبيق توصيات الصندوق كاملة ؟ وهل يمكن اعتبار الصندوق بريئا في هذه الحالة ؟ أم أن هذه المراجعات والتوصيات ليست هي القرارات التي تعتمدها إدارة الصندوق في واشنطن ؟
يبدو أن الاحتمال الثاني هو الأرجح ، فالصندوق كما كان يقول رئيسه الأسبق دومينيك ستراوس ، هو أشبه برجل المطافئ لا يهمه من أشعل النار بقدر ما يهمه إطفاؤها ، ثم لا علاقة له بالأمر .. فالمهم عند الصندوق هو حماية أموال الدائنين من مؤسسات وبنوك ودول صناعية .. ولذلك يجب المحافظة على قدرة المدينين على السداد ..من خلال ما يسمى معالجة العجز المؤقت في موازين المدفوعات .. رغم أن معظم الدول المدينة تعاني من عجز هيكلي في موازين المدفوعات ، ومع ذلك فما دام لدى هذه الدول موارد يمكن الوصول إليها ، فتبقى دولا صالحة للاقراض غير الأخلاقي الذي تترتب عليه فوائد مضاعفة أضعافا كثيرة .

وبالعودة إلى موقع صندوق النقد الدولي وحالة الأردن ، فقد جاء في المراجعة الخامسة في 15 نوفمبر 2022 ” من المتوقع أن تقلص الحكومة المركزية عجزها الأساسي … في عام 2022 ، مع تعويض تكاليف دعم الوقود والغذاء الأكبر من المتوقع من خلال ترشيد الإنفاق غير ذي الأولوية و زيادة كبيرة في أداء الإيرادات. يعكس هذا الأخير جهود الحكومة المؤسسية والتشريعية المستمرة لمعالجة التهرب الضريبي وتجنبها… إن الإلغاء التدريجي للدعم غير المستهدف لأسعار الوقود ، مع حماية المستضعفين من ارتفاع الأسعار من خلال التحويلات النقدية الإضافية ، أمر مرحب به ، لأنه يوفر الموارد الثمينة للإنفاق ذي الأولوية.”
فأين التعويض الأكبر من المتوقع لتكاليف دعم الوقود والغذاء .. وأين ترشيد الإنفاق غير ذي الأولوية وهل وجدت إصلاحات لمعالجة التهرب الضريبي ؟ إين حماية المستضعفين من ارتفاع الأسعار وأين التحويلات النقدية الإضافية ؟ أين الإلغاء التدريجي للدعم غير المستهدف لأسعار الوقود؟ حيث تشير الدراسات إلى أن 9 من كل 10 دولار من الدعم تذهب للأغنياء .. فلماذا لم تطبق هذه التوصيات ؟
يبدو أن جميع التوصيات لم تطبق أو طبقت بشكل طفيف جدا ، والأمر الوحيد الذي لا شك في حدوثه هو ارتفاع أسعار المحروقات بشكل كبير يفوق قدرة المواطن العادي على تحمل تكاليف الحياة .. مما زاد من معاناة سائقي شاحنات النقل والتاكسي وغيرهم ، وألجأهم إلى الإضراب وبالتالي حدوث القلاقل والاضطرابات الاجتماعية والسياسية ..
إن صندوق النقد الدولي في مراجعاته بريء نظريا من إحداث القلاقل السياسية والاجتماعية ، ولكنه ومن خلال ضغوطه على سداد الديون وفوائد الديون المتراكمة والمتضاعفة ضالع في إحداث المشكلات والتوترات والأزمات الاقتصادية والاجتماعية في معظم الدول التي تطبق برامج الإصلاح الاقتصادي .
خضعت 77 دولة لبرنامج الإصلاح الاقتصادي للصندوق منها 33 دولة إسلامية ، خرجت معظمها بعد تطبيق البرنامج أكثر فقرا ومديونية واختلالا وتشوها اقتصاديا واجتماعيا .. ولم تنجح في مواجهة الصندوق سوى دول قليلة جدا كان من أبرزها ماليزيا في التسعينات من القرن الماضي ، عندما اتخذ مهاتير محمد إجراءات معاكسة لشروط الصندوق ، وركز على محاربة الفساد ووضع إجراءات صارمة لمنع إخراج العملات الصعبة ، بما أدى في النهاية إلى أن يعترف صندوق النقد الدولي بأن إجراءات ماليزيا كانت أصح من شروط ووصايا الصندوق.
إن قيام الحكومة الأردنية بتخفيض أسعار المحروقات 75 فلسا هي خطوة في الاتجاه الصحيح ، ولكنها ليست كافية ، ولا بد من تطبيق ما ورد في التوصيات أو النصائج التي وردت في المراجعة الخامسة ، وأهمها الإلغاء التدريجي للدعم غير المستهدف لأسعار الوقود ، مع حماية المستضعفين من ارتفاع الأسعار من خلال التحويلات النقدية الإضافية .

أوروبا بين البرد والظلام أ.د كمال حطاب

24 December 2022

قبل عدة سنوات كنت عائدا من لندن إلى الكويت على متن الخطوط البريطانية بعد حضور أحد المؤتمرات، وكانت الرحلة بعد منتصف الليل ، ولما كنت لا أستطيع النوم في الطائرة وكان مقعدى على نافذة الطائرة ، فقد أمضيت تلك الليلة أراقب خارطة الرحلة على الشاشة ، وما يماثلها من دول وأماكن على الأرض .. وكان المنظر بديعا عجيبا ، كانت معظم دول أوروبا التي مررنا فوقها مضاءة بأنوار ساطعة متلألئة ، وكانت الخيالات والتصورات تزدحم في رأسي ، كانت الطائرة تسير بسرعة فوق الألف كيلومتر في الساعة ، ومع ذلك لا نشعر بأي اهتزاز ، ومعظم ركاب الطائرة يغطون في نوم عميق ، وأنا أفكر في سر هذه الإضاءة الساطعة فوق دول أوروبا ، وهل هي رفاهية زائدة ، أو زيادة الاستهلاك والترف ، أم أن هذه الإضاءة هي سر التقدم والتنمية .. ، تذكرت أن من خصائص الدولة المتقدمة زيادة نسبة استهلاك الكهرباء .. فلما صارت الطائرة فوق تركيا ، لاحظت أن الجزء الأكبر من مساحة تركيا مضاءة ولكنها ليست كإضاءة أوروبا ، فلما مرت الطائرة فوق العراق لاحظت الظلام الدامس ، إلا من نار مشتعلة تظهر من بعيد بين الفينة والأخرى ، يبدو أنها نيران بعض مصافي النفط ، وتساءلت كيف لرابع أو خامس دولة في العالم من حيث احتياطي النفط أن تعيش في ظلام ؟ فقلت ربما هو الاحتلال الأمريكي أو ثمرات الديمقراطية الجديدة في العراق!! وصلنا إلى الكويت مع بزوغ الفجر ، وكانت الإضاءة الساطعة في سماء الكويت تكاد تختفي مع تباشير الفجر .
تذكرت هذه الرحلة اليوم ، وعرفت أن سر تلك الإضاءة الساطعة كان الغاز الروسي ، فبعد انقطاع الغاز الروسي أصبحت أوروبا مهددة بشتاء قارس وظلام دامس .. بعد توقف معظم المولدات الكهربائية والمحطات النووية عن العمل .. واتجاه معظم قادة أوروبا إلى دول النفط وإلى إفريقيا من أجل تأمين الغاز اللازم للإنارة والتدفئة وتشغيل المولدات والآلات الصناعية وأجهزة الكمبيوتر والرادارات والمطارات .. بمعنى آخر إعادة الحياة إلى أوروبا ..
ويبدو أن الطاقة الخضراء والطواحين والألواح الشمسية لا تزال محدودة جدا في أثرها وانتشارها رغم اتفاقية باريس وغيرها من الاتفاقيات التي تدعو إلى الحد من الغازات المنبعثة المدمرة للبيئة ..
يبدو أن خبراء التنمية لم يكونوا مخطئين عندما جعلوا نسبة استهلاك الكهرباء من أهم مؤشرات التنمية إضافة إلى درجة التعقيد الصناعي ومعدل دخل الفرد ، ومعدل الإنفاق على الرعاية الصحية والعلمية ، ومتوسط العمر المتوقع عند الولادة ..إلخ ..
ويبدو أنه يوجد خيط رفيع جدا بين التنمية والتخلف .. فالكهرباء وحدها كفيلة بعودة البشرية إلى العصور المظلمة في حالة انعدامها.. وعندها فسوف تفقد البشرية أكثر من 90% من إنتاجها الحضاري المادي ..
غير أن من أهم خصائص الدول المتخلفة التي كنا ندرُسها ونُدرّسها في موضوع التنمية ، اعتماد الدولة على سلعة واحدة ، كالنفط ، حتى ولو كانت من أهم الدول المصدرة للنفط ، فإن اعتماد أي دولة على سلعة واحدة فقط يدرجها ضمن الدول المتخلفة ، فلماذا صنفت دول أوروبا ضمن الدول المتقدمة ، واقتصادها قائم في معظمه على مادة خام واحدة .. هي الغاز ، إضافة إلى أن هذه السلعة مستوردة وليست منتجة محليا ؟
يبدو أن تقدم دول أوروبا كان نتيجة اتفاقات الإذعان التي وقعتها مع الدول المستعمَرة التي كانت خاضعة لها ، والتي تسمح لدول أوروبا بمصادرة الاحتياطيات واستغلال ونهب الثروات من الدول المستعمَرة ، ومن جهة أخرى فإن اتفاق دول أوروبا على إقامة السوق الأوروبية المشتركة ، والاتحاد الأوروبي وإصدار عملة واحدة هي اليورو ، كان هو العامل الأبرز في تقدمها ، وهي نفس الخطوات التي بنت أمريكا قوتها عليها ، فقد كانت الحرب تعصف بالولايات الأمريكية شمالا وجنوبا وشرقا وغربا ، ولم يصبح لها اسم أو كيان إلا بعد الوحدة وظهور الولايات المتحدة الأمريكية ..
ولعل مما لا يختلف عليه اثنان ، أن من أهم أسباب تخلف الأمة العربية والإسلامية هو الانقسام والتفكك وغياب أي مظهر من مظاهر الوحدة والتكامل الحقيقي بين هذه الدول .. فمتى تعي هذه الدول أن سر قوتها يكمن في وحدتها ، وأن تخلصها من التبعية الاقتصادية والسياسية للدول الغربية يتحقق من خلال وحدتها وتكاملها مع بعضها .. وأن الدين هو العامل الأول الذي يمكن أن يزيل كافة الحواجز التي تمنع من الوحدة وتحول دون التكامل والتضامن والاتحاد ..
إن الأمة العربية والإسلامية لا ينقصها غاز أو بترول ، حيث تعتبر الأولى على العالم في احتياطيات النفط والغاز ، ولكن الذي ينقصها الإرادة والعزيمة من أجل الاتحاد وتحقيق التكامل والتمسك بثوابتها ودينها قال تعالى ” إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ” ( الأنبياء ، 92) ..

يا فرنسا قد مضى وقت العتاب.. أ.د كمال حطاب

21 December 2022

هذا العنوان شطر بيت شعر في النشيد الوطني الجزائري الذي كنا ننشده في الطابور الصباحي في مدارس الأردن في الستينات من القرن الماضي حين كنت في المرحلة الابتدائية .. وفي تتمة النشيد .. يا فرنسا إنّ ذا وقت الحساب .. فاستعدي وخذي منا الجواب .. إنّ في ثورتنا فصل الخطاب ..وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر .. فاشهدوا .. فاشهدوا .. فاشهدوا .
تذكرت هذا النشيد مع هزيمة فرنسا في كأس العالم ، ومع أنها هزيمة في ملاعب كرة القدم إلا أنها لامست قلوب المظلومين في معظم أنحاء الأرض .. فما أجمل النصر عندما يكون على دولة ظالمة كفرنسا ، حتى ولو كان نصرا معنويا رمزيا من خلال كرة القدم ، وإذا كان لهذا النصر الرمزي طعمه وحلاوته التي ذاقها نصف سكان الأرض ، فلا شك أن النصر الحقيقي سيكون أجمل وأعظم ، عندما يطرد الاحتلال الفرنسي نهائيا من دول عديدة ، في إفريقيا وغيرها .. وعندما تعترف فرنسا بجرائمها واستغلالها ونهبها لثروات الدول التي استعمرتها ، وتعمل على إعادة هذه الثروات وتقدم التعويضات عن جرائمها .
حيث تفيد بعض التقارير بأن أربعة عشر بلدا إفريقيا لا تزال تدفع الضرائب لفرنسا حتى الآن ، بعد نيلها الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي ، وأن فرنسا تحتفظ بخزائنها بما قيمته 500 مليار دولار من احتياطيات المستعمرات التي كانت خاضعة لها .
ما أعظم النصر عندما يكون نصرا حقيقيا يُقتص فيه من المجرمين الذين لا يزالون يحتفظون في متاحفهم بجماجم الجزائريين الأحرار الذين ثاروا ضد الاحتلال الفرنسي ، ويفتخرون أمام العالم بجرائمهم ..
إن تقديم المجرمين المتطرفين وكل من يدعمهم إلى محاكم العدل الجنائية الدولية ، يمثل خطوة مهمة نحو تحقيق النصر الحقيقي ..وإنصاف المظلومين وأبنائهم وأحفادهم وذرياتهم .
ما أجمل النصر عندما يكون انتصارا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على من أساء إليه وداوم على هذه الإساءة ودعم المسيئين له ، وباسم الحرية دعم الرسومات المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولكنه باسم الحرية أيضا لا يستطيع أن يدعم الحجاب ، بل يحارب الحجاب ولا يسمح به في أماكن العمل ..
ما أجمل النصر عندما يكون انتصارا لمن تعرضوا للاضطهاد بسبب دينهم وعرقهم .. وآخرهم أعضاء فريق المنتخب الفرنسي ذوي الأصول الإفريقية الذين تعرضوا لأبشع أشكال التمييز العنصري بعد هزيمتهم .
ما أجمل النصر عندما يكون انتصارا على من توعدوا بشطب اسم محمد صلى الله عليه وسلم من دوائر تسجيل المواليد في فرنسا .
ما أعظم النصر عندما يكون انتصارا على من رفعوا شعار المثلية أو توعدوا برفع هذا الشعار في حالة فوزهم بكأس العالم ..
ما أعظم النصر عندما يكون انتصارا لمن تعرضوا للاضطهاد والإغراق في البحر من اللاجئين والمهاجرين ، وعندما يكون انتصارا لمن تعرضوا للتمييز والعنصرية بسبب لباسهم أو لونهم أو عرقهم ..
من حق العرب والمسلمين والأفارقة وكافة المظلومين من قبل فرنسا ، من حقهم أن يفرحوا بهزيمة فرنسا ، الدولة الأكثر بشاعة في استعمارها لإفريقيا ، الأكثر وحشية في الجزائر وتونس والمغرب العربي وسوريا ولبنان ، وكافة الدول التي لا تزال خاضعة للاستغلال والظلم الفرنسي ..
من حق الناس أن يفرحوا لأي إشارة تدل على هزيمة الظلم والظالمين .. ومن حقهم أن يأملوا ويستبشروا بزوال الظلم ..
فرح الرسول صلى الله عليه وسلم وفرح المسلمون عندما غَلب الروم النصارى ، الفرس المشركين في بداية بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت معجزة قرآنية تحدث عنها القرآن الكريم في سورة الروم ..
إن للمسلمين والمنصفين والباحثين عن العدالة من جميع الأديان الحق في أن يفرحوا عندما ينتصر المظلوم على الظالم حتى ولو كان نصرا رمزيا من خلال كرة القدم .. من حق شعوب العالم الثالث أن تفرح بهذا الانتصار ، ومن حق دول الجنوب أن تفرح بهذا الانتصار على دول الشمال ..
وليس في هذا الفرح بأي حال من الأحوال ، تغذية للكراهية المذمومة ، فكراهية الظلم أمر محمود ، يتفق عليه العقلاء والمنصفون من كافة الشعوب والأمم ، كما يتفقون على نصرة العدالة وإنصاف المظلومين .

All Rights Reserved © www.KamalHattab.info  |  [email protected]