البتكوين .. عملة المستقبل ؟؟ أ.د كمال توفيق حطاب
31 August 2021البتكوين .. عملة المستقبل ؟؟
أ.د كمال توفيق حطاب
وصلت عملة البتكوين قبل أيام إلى خمسين ألف دولار ، وقبل أشهر قليلة وصلت إلى حاجز أل ستين ألفا ، وأعلى منه قليلا ، فهل يمكن أن تستمر في الصعود؟ وما الذي أدى إلى هذا الارتفاع ؟ وهل يمكن أن تكون عملة المستقبل ؟ وهل يمكن أن تحل محل العملات القائمة أو محل الدولار ؟
هذه أسئلة تتردد كثيرا على ألسنة الناس ، ويتوقع البعض أن تصل قيمتها إلى مليون دولار ، حيث تتكون البتكوين الواحدة من مئة مليون سوشي ، فيكون السوشي مقابل مئة دولار ، ولكن قبل ذلك ، كيف ستصل إلى هذا الرقم ، وعلى أي أساس أو أي أسلوب ؟ وما هي أشكال المضاربات التي تمارسها صناديق التحوط ، وكبار المضاربين العالميين .. ولماذا منعت معظم حكومات العالم تداول البتكوين في وقت سابق ، وعادت بعضها إلى الموافقة القانونية عليها حاليا ..
مع انتشار وتفوق البتكوين في السنوات الماضية ، خشيت كثير من الحكومات على سيادتها ، فقررت منع التداول بها ، غير أن ظهور أزمة كورونا وازدياد التعامل بها بشكل كبير ، وإقبال عدد من الشركات العالمية الكبرى على اقتناء كميات كبيرة من البتكوين ، أدى إلى ازدياد الثقة بها بشكل كبير ، وهذا ما دفع معظم حكومات العالم إلى الاعتراف الجزئي بمشروعيتها القانونية .
كما أن إقبال عدد من الشركات العالمية الكبرى على شراء البتكوين دفع معظم المستثمرين في العالم إلى شراء هذه العملة ، وهو ما أدى إلى تضاعف قيمتها بشكل كبير جدا .
من بدهيات أدبيات العملات والنقود أن النقد يمكن أن يكون أي شيء فلا يشترط فيه أن يكون نقدا أو ورقا أو ذهبا أو فضة ، بل مرجعه إلى العادة واصطلاح الناس على التعامل به . غير أن هذا الاصطلاح والعادة حتى تكون معتبرة لا بد فيها من الصبغة القانونية ، ودون ذلك فلن يكون النقد مقبولا ولن تحصل العادة أو الاصطلاح .
ولذلك كان النقد عبر التاريخ من مظاهر سيادة الدول ، وحتى وقتنا الحاضر فإن عملات العالم هي من اختصاص الدول ، وبالتحديد البنك المركزي في كل دولة .
غير أن المراقب لأوضاع حكومات العالم يجد أن الذي يحكم العالم حقيقة في الوقت الحاضر ، هو الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات ، وبالتالي فعندما يكون من مصلحة هذه الشركات إضفاء الصبغة القانونية على هذه العملات أو غيرها ، فسوف تصبح قانونية ، والعكس ، وهكذا يدخل العالم بكافة حكوماته ومؤسساته في قبضة الشركات ، وتصبح القرارات السيادية لكل دولة خاضعة لرغبة الشركات وأصحاب الشركات .
فهل يمكن أن يصطلح الناس أو تصطلح الشركات الكبرى على تداول عملات معينة دون موافقة الدول أو الحكومات ؟ هل يمكن للبتكوين أن تصبح عملة قانونية في كافة دول العالم ؟ وهل يمكن أن تكون بديلا للدولار ؟ أو بمعنى آخر ، ماذا لو صدر قرار من الولايات المتحدة بإلغاء الدولار وإحلال البتكوين مكانه ؟
لا شك أن صدور مثل هذا القرار سيشكل صدمة كبيرة لكافة دول العالم ، حيث تمتلك معظم دول العالم مليارات الدولارات وربما تريليونات الدولارات .. فما الذي سيحدث لهذه التريليونات أو المليارات ؟ هل يمكن أن تتبخر في لمح البصر ؟ وماذا سيترتب على ذلك ؟ وهل هذه الأسئلة من المستحيلات العقلية ؟
مما لا شك فيه أن هذه الأسئلة ليست من المستحيلات العقلية ، بل هي من الممكنات العقلية ، وقد سبق أن صدر قرار من الولايات المتحدة ربما كان أخطر من مثل هذه القرارات ؟ ففي عهد الرئيس الأمريكي نيكسون صدر قرار بعدم قابلية تحويل الدولار إلى ذهب ، وتقبل العالم ذلك القرار دون أي اعتراض ، وحل الدولار محل الذهب على مستوى العالم ، ورضيت دول العالم أن تأخذ أوراقا نقدية لا قيمة ذاتية لها مقابل الذهب ، ولا يزال الوضع قائما حتى وقتنا الحاضر .
غير أن قرار إلغاء الدولار وإحلال البتكوين مكانه لن يكون سهلا ، فهذا القرار يتطلب أن تكون أمريكا مسيطرة تماما على هذه العملة ، أو تكون مالكة لمعظم ما أصدر منها ، وبالتالي تمتلك القدرة على إدارتها والتحكم بها . فهل يمكن أن يحصل ذلك ؟ وهل يمكن لأمريكا أو أية دولة أخرى أن تسيطر أو تتحكم في عملية إصدار البتكوين وغيرها من العملات الافتراضية ؟
الخبراء في الجوانب الفنية يقولون بأن ذلك صعب جدا ، ولكن أليست هذه العملة معتمدة كليا على الإنترنت ؟ أليست شبكة الإنترنت تحت السيطرة والتحكم ؟ ثم أليس هذه العملة وأخواتها تعتمد في تعدينها على استهلاك كمية كبيرة جدا من الكهرباء ؟ ألا يمكن معرفة من هي الجهات التي تستهلك هذه الكميات الضخمة من الكهرباء ؟ كيف قامت ماليزيا بتحطيم أجهزة المُعدنين نظرا لاستهلاكهم المفرط للكهرباء في الأسابيع الماضية ؟ وكذلك فعلت إسبانيا عندما اكتشفت مزارع لتعدين البتكوين .. لماذا يحاول الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة الأمريكية إيجاد تشريع بفرض ضريبة على من يملك ما قيمته عشرة آلاف دولار فأكثر من البتكوين ؟ وكيف سيتم ذلك إذا لم تكونوا قادرين على السيطرة والتحكم ؟
إن هذه التساؤلات تشير إلى وجود احتمالات بأن عملية إصدار البتكوين هي تحت السيطرة ، وأن من مصلحة الدول الكبرى استمرار إصدارها ، وإلا فإنها تستطيع إيقاف التعدين ، كما تستطيع فرض ضرائب على هذه الإصدارات .
إن ما كانت تخشاه الحكومات سابقا ، هو أن تفقد السيطرة على إصدار العملة والتحكم بها ، فيما لو انتشرت عملة البتكوين وأخواتها انتشارا واسعا ، يصرف الناس عن التعامل بالعملات المحلية والدولية الأخرى ، ففي هذه الحالة سوف تفقد الحكومات سر قوتها وتحكمها وسيطرتها .
إن العملات في أصلها في الأدبيات النقدية هي ديون على مُصدريها ، وهي أشبه بتذاكر حضور المباريات ، فلا بد أن تكون هذه التذاكر مقيدة بعدد الأشخاص الذين يستفيدون منها ، فإذا زادت هذه التذاكر فسوف يوجد تضخم في الملاعب والمدرجات ، وإذا انخفض عددها فسوف يحدث العكس ، ولذلك تحرص البنوك المركزية على أن يكون حجم إصدار العملة مساويا لحجم الناتج القومي الإجمالي تجنبا للتضخم والانكماش والتقلبات المرافقة .. أما في حالة العملات الافتراضية فإنها عبارة عن إصدار تذاكر من غير شباك التذاكر ، وسوف تؤدي زيادة الإصدار منها إلى وجود تضخم نقدي كبير في حالة السماح بتداولها في كافة القطاعات .. ما لم يوجد اتفاق دولي ينظم هذه العملية .
إن معظم العملات الدولية كالدولار واليورو ، هي أشبه بإصدار التذاكر خارج شباك التذاكر ، ولكن وجود اتفاق دولي مستمر منذ بريتون وودز ، ووجود أجهزة عالمية كصندوق النقد الدولي تحمي هذا الاتفاق ، تعطي لهذه العملات الدولية الشرعية القانونية ، وتمكنها من السيطرة على كافة أسواق العالم .. فالتذاكر ليست محصورة بملعب أو مدرج واحد ، وإنما يمكن استخدامها في كافة الملاعب والمدرجات في العالم .
إن عملة البتكوين فيما لو تمكنت أمريكا أو الدول الكبرى من إيجاد اتفاق حولها فإنها يمكن أن تكون عملة دولية تحل محل العملات الدولية السائدة ، وبالتالي فإن وصول قيمتها إلى مليون أو أكثر من ذلك ليس مستبعدا في حالة واحدة ، وهي وجود اتفاق دولي أشبه بالاتفاق حول الدولار .