عودة إلى الصفحة الرئيسية

مؤتمرات المصرفية الإسلامية بين المهنية والنفعية أ.د كمال حطاب

15 March 2023

هل يمكن أن يكون العاملون في الاقتصاد الإسلامي والصيرفة الإسلامية والمؤسسات المالية الإسلامية مجندين لخدمة أصحاب رؤوس المال دون أن يشعروا بذلك ؟ هل يمكن أن تكون الفتاوى وقرارات مجامع الفقه وفتاوى الهيئات الشرعية موجهة لخدمة أصحاب رؤوس الأموال دون قصد من الفقهاء والخبراء والمفتين .. لماذا ينفق أصحاب رؤوس الأموال أموالهم على المؤتمرات والندوات واللقاءات العلمية المحلية والعالمية ؟
إن معظم المؤتمرات والندوات واللقاءات العلمية تقوم على النفعية والمصلحة المتبادلة والدعاية والإعلان والتسويق .. وهي شكل من أشكال الحوافز والمكافآت التي تقدمها بعض المؤسسات المالية الإسلامية للمطبعين معها والموقعين على عقودها وتقاريرها دون أي اعتراض .. فعندما يعلن عن أي مؤتمر في مكان ما في العالم ، تنظمه مؤسسة مالية إسلامية ، فإن معظم المشاركين سيكونون ممن لديهم مقاعد دائمة في هذا المؤتمر .. حيث يكون الاتفاق بين هذه المؤسسة والمؤسسات الأخرى التي تنظم ملتقيات دورية مشابهة على مدار السنة ، من أجل ترشيح شخصين أو ثلاثة أو أكثر لكل مؤسسة ، بحيث تشملهم المكافآت والمنافع التي تقوم هذه المؤسسات بتوزيعها .
فهل تصح مثل هذه السلوكيات الانتهازية النفعية من قبل مؤسسات تدعي أنها إسلامية أو تحرص على المشروعية ؟
وليت المسألة تقف عند المؤتمرات ، فالدورات التدريبية والورش والندوات والشهادات المصرفية .. إلخ في معظمها تدور في فلك المتاجرة بالقضية ، فقد وجدت اتفاقيات بين مؤسسات مالية مصرفية إسلامية على تقاسم شهادات مصرفية وتقاسم مدربين ، ومتدربين وإصدار اعتمادات مهنية ، دون أي مرجعية علمية مهنية عالمية أو إقليمية أو حتى محلية .. كل ذلك من أجل تقاسم المزيد من الأرباح واغتنام الطلب المتزايد في السوق ..
إضافة إلى ما تقدم ازدهرت تجارة المؤتمرات المالية الإسلامية التي تقيمها بعض المؤسسات والشركات والتي تجمع أكبر عدد من الداعمين والممولين الماسيين والذهبيين والفضيين ، وتقوم بتوزيع بعض المكافآت على الأسماء اللامعة الذين وجهت لهم الدعوات والاستكتابات ، كما تقوم بدفع مصاريف الإقامة والتذاكر .. ويبقى لديها من أموال الدعم ورسوم التسجيل ما تحقق به أرباحا طائلة .. وهذا هو الهدف الأساسي من مثل هذه المؤتمرات ، أما المحتوى والقرارات والتوصيات ، فهي أحبار على أوراق أو ذبذبات إلكترونية على أجهزة كمبيوتر أو مواقع يتم تسويقها من أجل الاستمرار في الحشد للمؤتمرات القادمة .
في ظل هذه الأوضاع والظروف ؟ لنا أن نتساءل كيف يمكن الحد من شبهات الفساد في المصرفية الإسلامية وكثير ممن يطلق عليهم خبراء أو علماء الصيرفة الإسلامية يشاركون في هذه السلوكيات بعلمهم أو دون علمهم ؟ كيف يمكن تطهير الصناعة المالية الإسلامية من الربا والغرر والغش والاحتكار ، ودعاة الصيرفة الإسلامية يشغلون أنفسهم في الزخرفة والبهرجة في مؤتمرات الصيرفة الإسلامية .
للأسف الشديد أن معظم العلماء الممثلين للصناعة المالية الإسلامية اليوم يحصرون دورهم في كتابة بحث هنا أو هناك وإصدار رأي أو فتوى وهم بذلك يظنون أن ذممهم قد برئت وأنهم في وضع سليم طالما عبروا عن رأيهم أو أصدروا قرارات هنا أو هناك ..
ومع احترامنا لهؤلاء العلماء وأهمية ما يقومون به إلا أن المنفذين لأدوات الصناعة المالية الإسلامية يطبقون ما يشاؤون مما يضمن لهم ولمؤسساتهم أكبر الأرباح .. ويستندون إلى ما يؤيد تطبيقاتهم من الآراء المبثوثة هنا وهناك .. بل ويحشدون جموع العلماء لمباركة مثل هذه الآراء .
وأنا أقول بانه لا بد أن يتداعى العلماء إلى ميثاق شرف يتعاهدون جميعا على بعض الأسس والثوابت التي لا يجوز الخروج عليها .. فمثلا صدرت قرارات مجمعية بتحريم التورق المنظم .. ومع ذلك يمكن القول بأن كثيرا من المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية لا تزال تتعامل بالتورق والمرابحات الدولية .. وبناء على ذلك ، لا بد من اتخاذ إجراءات رادعة بحق المؤسسات التي تخالف القرارات المجمعية ، وتعمل على تشويه وانحراف وتأخر الصيرفة الإسلامية ، من خلال زيادة الحيل والشبهات والمخالفات الشرعية .
ربما تكون المؤتمرات التي تقيمها الجامعات والمعاهد العلمية ، ومن خلال الأقسام الأكاديمية العلمية فيها هي المؤتمرات الوحيدة التي يمكن أن تكون بريئة من الشبهات ، ولعلها الطريقة الأكثر مهنية وشفافية وعلمية ، حيث يجتمع المتخصصون في أي علم ، فتتلاقح الأفكار العلمية وتتوالد الأفكار الجديدة فيحصل التراكم العلمي الذي يقود إلى التقدم والتنمية .. بعيدا عن تدخلات أصحاب رؤوس الأموال وأصحاب المصالح ،
ولذلك تعتبر الأقسام الأكاديمية في الاقتصاد والمصارف الإسلامية هي الجهات الأكثر مهنية وشفافية وحرصا على استمرار سلامة مسيرة المصرفية الإسلامية ، غير أن دورها لا يكاد يظهر ، في ظل الزخرفة الإعلامية لمؤتمرات المصرفية الإسلامية الممولة من قبل أصحاب رؤوس الأموال .

المفسدون في الأرض أ.د كمال حطاب

12 March 2023

لست عنصريا ، ولا أؤيد من يتهم الناس بسبب عرقهم أو لونهم ، فالناس سواسية ، ولا فرق بين أبيض وأسود .. إلخ ، غير أن استقراء أحوال الشعوب والتاريخ ، يوضح أن لكل شعب أو ملة أو طائفة خصائص ربما تتجذر فيهم حتى في جيناتهم ، وقد يعود ذلك بسبب اختلاف بيئاتهم وظروف معيشتهم بما ينعكس على سلوكياتهم وأخلاقهم وحتى أشكالهم .
فعرب الجاهلية في معظمهم ، كما أورد أبو الحسن الندوي الهندي في كتابه السيرة النبوية عند بحثه عن سر اختيار جزيرة العرب مهبطا للوحي ، فوصف العرب بأنهم ” اكتسبوا من الصحراء الخشونة والقساوة والصفاء وسلامة الفطرة ، ومن أكل الجمال الغيرة والغلظة” .
وبعض الشعوب قد تكون لهم صفات خشونة وقسوة وقوة تحمل ، كالقبائل الجبلية في القوقاز واليمن والأفغان وغيرهم ..
أما اليهود في معظمهم ، فقد وصفوا عبر التاريخ ، بالانطوائية والعزلة كما وصفوا بالشح والبخل والحرص على الحياة ، والجشع والمراباة والظلم والاستغلال والجبن ونقض العهود والمواثيق .. وردت صفاتهم في الكتب السماوية وفي كتب التاريخ ، وقد أكد بعض هذه الصفات شكسبير في مسرحيته الشهيرة ” تاجر البندقية ” والتي كانت تعرض على مسارح لندن وباريس قبل أكثر من 200 عام .
ولا يمنع ذلك أن بعض اليهود الذين أسلموا كانوا من كبار الصحابة الذين نترضى عليهم بعد إسلامهم ، وعلى أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب ، ولا يمنع كذلك من وجود يهود معارضين للصهاينة وللاحتلال الصهيوني البغيض مثل جماعة ناطوري كارتا .
ولذلك فإن الحديث التالي يخص اليهود الفاسدين المفسدين الذين ذكرت بعض أوصافهم في القرآن الكريم ، ونفس الأوصاف تنطبق على المحتلين الغاصبين لفلسطين ، القتلة المجرمين ، المعتدين على البشر والشجر والحجر ، وعلى كافة المقدسات ، المنتهكين للحرمات والقداسات ، والمنتهكين لحرمة الأحياء والأموات ..
إنه الحقد الصهيوني الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية ، أحكام بالسجن بعشرات المؤبدات ، واعتقال للأحياء والأموات .. فهناك اعتقال واختطاف وحجز لجثامين الشهداء من الرجال والنساء لعشرات السنوات ..
وقد أورد القرآن الكريم بعض عقدهم النفسية المرضية والتي تنطبق على معظمهم حتى وقتنا الحاضر ، مثل العنصرية المقيتة ، والاستعلاء والتكبر على الآخرين ، فقد سولت لهم نفوسهم المريضة أنهم شعب الله المختار ، وأنهم قد ضمنوا الدنيا وكذلك الآخرة ، فأوضح الله كذبهم بتحديهم بتمني الموت ، ولكنهم لم يفعلوا ولن يفعلوا ، فهم أشد شعوب الأرض حرصا على الحياة، ، قال تعالى ” وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ۚ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُون ” ( البقرة ، 96 )
ومن عقدهم النفسية المرضية نقض العهود ، استخفافا وانتقاصا لبقية البشر ، فقد نقضوا عهودهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما نقضوا عهودهم مع موسى عليه السلام . وها هم اليوم ينقضون العهود والاتفاقيات على مرأى العالم وسمعه .. كما أنهم عبر التاريخ قتلة الأنبياء وقتلة المصلحين الذين يأمرون الناس بالقسط ، وقتلة الأطفال والنساء والشيوخ .. وفي العصر الحاضر وجدت كتب كثيرة لمؤلفين غربيين تُجمع على أنهم في الغالب ، وراء كل جريمة أو اغتيال أو إفساد في الأرض ..
وما يقومون به في فلسطين يوميا من قتل وتشريد وأسر واعتقال وهدم للبيوت واعتداء على الحجر والشجر والمحاصيل الزراعية لا يخفى على أحد ..
إن هذه العقد النفسية المرضية ، وهذا الإجرام الذي يمارسونه ، لا يمكن أن يستمر ، فلكل فعل رد فعل ، وكما تدين تدان ، سواء على مستوى الأفراد أو الشعوب أو الدول .. إن هذه الفئة المجرمة لا بد أن تواجه القصاص، ولا يمكن أن تعيش بسلام ، لأن في هذا خلاف للمنطق وخلاف للتاريخ وخلاف للنواميس والسنن الكونية .
إن هؤلاء المجرمين لا يزالون مستمرين في طغيانهم وجرائمهم بحق الشعب الفلسطيني ، ففي كل يوم يسقط شهداء وجرحى في فلسطين ، وفي كل يوم مصادرة أراض، واعتداءات على البيوت والأشجار والمحاصيل الزراعية ، وحتى المقابر لم تسلم منهم .. إنهم مستمرون في طغيانهم وإجرامهم .
وبالتالي لا بد أن ينالوا جزاءهم الذي وعدوا به في قوله تعالى ” وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ” ( الإسراء ، 7 ) فلا بد أن يصيبهم التبار وهو الهلاك والخراب والدمار ، قال تعالى على لسان نوح عليه السلام ” وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا ” ( نوح ، 28 ) ، لا بد أن يجدوا نتيجة ما قدموا .. ويواجهوا مصيرهم النهائي الذي يخلص الأرض من شرورهم وظلمهم وطغيانهم ، ولا شك أن ذلك سيكون قريبا بإذن الله .

المهنية والنهوض الحضاري أ.د كمال حطاب

05 March 2023

عايشت مصطلح ” المهنية ” لمدة عامين ، حين عملت في ماليزيا وكيلا للجامعة للشؤون الأكاديمية ، وكان لدينا موظفون ماليزيون وعرب ، وكان الفرق في أداء الأعمال كبيرا ، فمعظم الموظفين الماليزيين يؤدون أعمالهم بمهنية عالية دون تذمر أو ضجر بعكس غير الماليزين من العرب غالبا ، فمعظمهم يؤجلون أعمالهم ويكثرون الشكوى والتذمر بخصوص الراتب وصعوبة العمل .. إلخ .
لعل أقرب المعاني لمصطلح المهنية هو الإتقان أو الإحسان أو الكفاءة العالية في أداء أي عمل ، وبكلمات أخرى أن يؤدى العمل وفقا للمواصفات والشروط المطلوبة بحرفية كاملة ..
عندما يسود هذا المصطلح في كافة المرافق والمجالات في المجتمع ، فإن المجتمع سيتحول إلى مجتمع متقدم بلا شك .. ففي مجال التعليم الجامعي عندما يكون لكل مساق أوصاف محددة معتمدة من هيئات اعتماد معتبرة ، يتم الالتزام بها من قبل عضو هيئة التدريس ومن قبل الطلبة ، عندئذ يمكن أن يقال بانه توجد مهنية في التعليم ، وكذلك عندما يكون لعضو هيئة التدريس مؤهلات وخبرات محددة يتم التقيد بها عند التوظيف عندئذ توصف المؤسسة بالمهنية ويوصف عضو هيئة التدريس بالمهنية كذلك .
وفي مجال أداء الوظائف العامة وتقديم الخدمات العامة ، نقول بأنه عندما تؤدى الوظائف وتقدم الخدمات العامة للناس في أقصر وقت وأقل جهد وتكلفة وبأفضل نوعية نقول بأن الخدمات تؤدى بمهنية عالية وهكذا في جميع الأعمال والخدمات التي يتبادلها الناس في المجتمع ..
وعندما تؤدى الخدمات الطبية بأقل وقت انتظار وأقل تكلفة وأفضل معالجة صحية ، وأعلى وأرقى مشاعر إنسانية ، يمكن أن يقال بأن الطبيب ذو مهنية عالية ..
وإذا نظرنا إلى حال معظم دول العالم فسوف نجد أن الدول المتقدمة تزداد فيها المهنية والاحترافية أما الدول المتخلفة فإن المهنية والاحترافية هي في أقل درجاتها وأسوأ أشكالها ..
وعندما نبحث في السبب فسوف نجد أن خصائص البيئة المحيطة بالعملية الإنتاجية في الدول المتخلفة هي السبب في انخفاض المهنية والكفاءة ، ولعل من أبرز هذه الخصائص .. المحسوبية والواسطة وتحديد المركز الاجتماعي للفرد مسبقا ووضع الرجل المناسب في المكان غير المناسب والتسيب والغياب عن العمل .. إلخ
وتنعكس هذه الخصائص على كافة قطاعات ومرافق المجتمعات النامية وفي الدول العربية بشكل خاص، في التعليم والصحة والقطاع التجاري والصناعي والزراعي والخدمات والقطاع العسكري والأمني .. وقطاع الشباب والرياضة والتدريب والتأهيل ..
ولعل من أبرز خصائص البيئات المتخلفة التي لا يشار إليها في كتابات التنمية الخصائص النفسية التي تتسم بها الأجيال الناشئة في البيئات المتخلفة، ففي ظل غياب الحريات في معظم هذه الدول والشعور بالظلم والقهر ، وغياب العدالة الاجتماعية ، تنشأ الأجيال خائفة مذعورة ذليلة .. ومثل هذه الأجيال لا ينتظر منها أن تحقق تقدما أو نهوضا حضاريا .
إن غياب الحرية والكرامة لا يمكن أن تحفظ مهنية أو احترافية أو كفاءة أو مصداقية ، ففي ظل غياب الحرية والكرامة والعدالة سوف تنتشر كافة أشكال الظلم والتسيب والانتهازية والنفاق الاجتماعي ، ولن تقوم لهذه الأمة قائمة حتى تسترد حريتها وكرامتها ، وتعيش في ظل العدالة والأمانة والكفاءة والإحسان والمهنية ..
إن المهنية ليست شعارا أو خاصية يمكن اكتسابها فجأة أو دون تخطيط أو مقدمات ، ولكنها منهج حياة تتطلب تغييرا في سلوك المجتمع بالكامل ، إن المهنية تتطلب تغييرا في مناهج التعليم ابتداء من الحضانة والمدارس الابتدائية وانتهاء بالتعليم الجامعي ، مناهج تتضمن تقديس العمل والإنجاز والإخلاص والكفاءة ، مناهج يعدها متخصصون يفخرون بتاريخهم وأمجادهم وقيمهم واستقلالهم ، وليست مناهج تكرس التبعية والهزيمة النفسية ..
إن المهنية في ماليزيا ، وكما أعلن مهاتير محمد باني نهضة ماليزيا ، بدأت بـــكلمة ” اقرأ ” ، وركزت على بناء الإنسان في كافة المجالات العلمية والحضارية ، الإنسان الذي يعتز بقيمه وأخلاقه وكتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، قبل أن يأخذ الحكمة والعلم عن الشرق أو الغرب .. فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها .

زلزال تركيا ورأسمالية الكوارث … أ.د كمال حطاب

06 February 2023

نقلت وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي المشاهد المؤلمة والمفجعة للآثار التي تركها الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا صبيحة هذا اليوم .. وتزايدت أعداد الضحايا والجرحى والمفقودين حتى بلغوا الآلاف وربما عشرات الآلاف .. نسأل الله أن يرحم الشهداء ويشفي الجرحى وينقذ المفقودين الأحياء ، ويفرج عنهم أجمعين ..
إن من أساسيات الإيمان أن المصائب والكوارث هي ابتلاءات ربانية تواجه الناس باختلاف أوضاعهم ودرجاتهم الإيمانية فقد تكون امتحانا أوتصفية وتنقية للإيمان ، وقد تكون اصطفاء من الله ، قد تكون عقوبة للظالمين المعاندين المنتهكين حرمات الله .. إلخ . وقد وضحت سورة آل عمران بعض هذه الجوانب في أعقاب غزوة أحد ، وهزيمة المسلمين ، وسقوط عدد كبير من الشهداء والجرحى ..
تداعت كثير من الدول العربية والإسلامية إلى المساعدة بإرسال فرق للإنقاذ وأساطيل جوية للمساعدات ، وهو أمر طبيعي وليس غريبا على هذه الأمة التي اكتسبت صفة الخيرية منذ بعث النبي صلى الله عليه وسلم فيها .
غير أن الملفت للنظر أن كثيرا من الدول الأجنبية أبدت استعدادها لتقديم المساعدة ، وعزمها على تقديم المساعدة ، وقلقها من حجم الأضرار ، وحزنها على الضحايا ، دون أن تحرك ساكنا ، وقد عودتنا كثير من هذه الدول الرأسمالية على استغلال الكوارث من أجل حساباتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية .. بحيث تترافق مساعداتهم مع خطط إعلامية تترافق مع المعونات تؤدي إلى تحقيق مصالح اقتصادية وسياسية ..
وقد تحدثت نعومي كلاين صاحبة كتاب ” عقيدة الصدمة ورأسمالية الكوارث ” عن هذا الموضوع بتفصيل كبير .. فهذه الدول ومن خلال شركاتها الكبرى المتعددة الجنسية ، تستغل الكارثة وحالة الصدمة المرافقة لها من أجل أن تفرض شروطها لتقديم المساعدات بشكل يخدم مصالحها واستمرارية وجودها في الدول المنكوية .
إن رأسمالية الكوارث تقتضي أن تقوم الدول الرأسمالية باستغلال الكارثة الطبيعية لمصالحها السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، فتسارع إلى تقديم المساعدات لتضمن ولاء الدول المنكوبة وبالتالي خضوعها لبرامجها ومصالحها الاقتصادية ، وذلك من خلال الحصول على عقود لإعادة الإعمار والبناء ، كما حدث في العراق ، وكما حدث من قبل في هايتي في أعقاب زلزال هاييتي عام 2010 والذي راح ضحيته ما يزيد على 300 ألف قتيلا .
إن الدول الرأسمالية والولايات المتحدة بشكل خاص لديها خبرة كبيرة في ترويض حكومات الدول الضعيفة من أجل تسويق مصالحها الاقتصادية ، بما يضمن تبعية حالة الطلب في أسواق الدول الضعيفة لحالة العرض في أسواق الدول المتبوعة خاصة في مجال المعدات العسكرية وصفقات السلاح ومواقفها في المحافل الدولية .
غير أنها في حالة تركيا لن تنجح غالبا ، وبالتالي فلا مصلحة لها في المساعدات إلا بما يقتضيه المشهد الإعلامي والتصريحات الدبلوماسية .
إن رأسمالية الكوارث هي شكل آخر من كوارث الرأسمالية التي قد تفتعل حروبا يقتل فيها آلاف وملايين البشر مقابل أن تستمر مصالحها المادية وأرباحها الفلكية .

سنن المسخ والاستئصال والإمهال … أ.دكمال حطاب

27 January 2023

مما هو ثابت في المحكم من القرآن الكريم ، قوله تعالى ” وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ” ( البقرة ، 65 ) فالمسخ حدث لفئة من اليهود ، وهم الذين اعتدوا في الصيد يوم السبت ، وهؤلاء بلغت تجاوزاتهم حدودا لا يمكن لهم أن يستمروا بعدها ، تجاوزات غير مسموح بها ، ولا شك أنهم قد أنذروا قبل ذلك ، وربما طلبوا من نبيهم أن يتحقق ذلك العقاب كما طلب آخرون من قبلهم أو بعدهم .. فأنزل الله بهم عذاب المسخ .. ومع ذلك فقد استمر بقية اليهود الآخرين على فسادهم وطغيانهم وعصيانهم لأنبيائهم باستثناء القلة القليلة المؤمنة ، رغم وجود هؤلاء القردة الممسوخين في ذلك الزمن ، واختلاطهم بمن تبقى من اليهود وعلى وجهوهم الندم والحسرة والدموع كما تفيد بعض الروايات .
لماذا لم يدعُ موسى على قومه ، كما دعا نوح ” وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ” (نوح 26 ) ، رغم أن ما قام به بنو إسرائيل من كفر ، وقتل للأنبياء، ومتاجرة بآيات الله وكتبه ، أكبر بكثير مما فعله قوم نوح . لماذا لم يدع عليهم ويخلص البشرية من شرورهم وأذاهم وباطلهم ؟ لماذا لم يعاقبوا كما عوقبت ثمود وعاد وفرعون وغيرهم من الأقوام البائدة ؟ لماذا لم يُستأصلوا ويجتثوا من الأرض فترتاح البشرية من فسادهم وظلمهم ؟
مما لا شك فيه أن لله حكم عظيمة في استمرار وجودهم ، ومعاصرتهم لبعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، واستمرارهم إلى ما قبل قيام الساعة .
إن حكمة الله البالغة اقتضت أن تبقى هذه السلالة لكي يكونوا دليلا دامغا على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم الذي يجدونه مكتوبا عندهم . ومن أجل أن يتم دحض كافة شبهاتهم العقائدية وهم أهل الكتاب وأهل العلم في ذلك الزمان ، وبالتالي تستقر عقيدة المسلمين على أمور واضحة لا لبس فيها .
لقد تكفل القرآن في كشف حججهم ومؤامراتهم وما يخفونه من علم حول نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما يبطنونه من دسائس ومؤامرات ، بما يؤدي إلى زيادة يقين المؤمنين وإزالة الشك لدى المتشككين .
لقد أعطوا الفرصة تلو الفرصة من أجل إثبات كذب النبوة ، ولم يستطيعوا ، مما دل على كذبهم وسوء طويتهم ، وفي ذلك درس تلو الآخر للمشركين والمتشككين .
لقد بلغت إساءات اليهود للنبي محمد صلى الله عليه وسلم ولأصحابة أشد من إساءاتهم للمسلمين في الوقت الحاضر ، ومع ذلك فقد صبر النبي عليهم في البداية ، ووقع معهم ومع كافة أهل يثرب وما حولها وثيقة المدينة ، بأن لهم من الحقوق ما للمسلمين ، وعليهم ما على المسلمين ، وأن يتعاقلوا ويتكافلوا ويفدوا بعضهم بعضا .. إلخ ، ومع ذلك قام بنو قينقاع وبنو النضير بالغدر فأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم وغنم المسلمون أموالهم وحصونهم ، وقام بنو قريظة بالخيانة العظمى عندما تحالفوا مع المشركين ضد المسلمين ، فحاربهم النبي صلى الله عليه وسلم وقتل الخائنين منهم ، وكذلك يهود خيبر حاربهم النبي صلى الله عليه وسلم وغنم المسلمون أموالهم وحصونهم .. وهكذا كانت أفعال اليهود في المدينة تتراوح بين الغدر والخيانة والمؤامرات على النبي صلى الله عليه وسلم .
اقتضت حكمة الله أن لا يُستأصل اليهود ، وأن يبقوا إلى قيام الساعة ، من أجل إقامة الحجة على البشرية ، فالحق واضح والباطل واضح ، فمن أراد أن يسير في صف الباطل وأن يدعم الباطل ، ويدعم الاحتلال والقتل والاغتصاب وتشريد الناس من بيوتهم فقد أقيمت عليه الحجة ..
إنهم اليوم في فلسطين يمارسون أفظع أشكال الجرائم ، القتل اليومي والتشريد ، وهدم البيوت ، والاعتداء على الحرمات ، والمقدسات ، والتضييق على الناس والحصار ، يمارسون كافة أشكال الأذى والجرائم التي يمكن أن يتصورها البشر .. وينتهكون القانون الدولي بكافة أجزائه وفروعة خاصة ذلك القانون الذي يحمي الشعوب المحتلة والقانون الإنساني الدولي .. دون أن يحسبوا حسابا لأحد .. ودون أن يوقفهم أحد .. بل إنهم مدعومون من قبل كثير من الدول التي تمثل الشرعية الدولية في هذه الأيام ..
إن لله عز وجل في خلقه سنن ونواميس ، ومنها أنه يمهل ولا يهمل ، فالإمهال والإنظار أعطي لإبليس اللعين عندما قال أنظرني إلى يوم يبعثون ، وكذلك أعطي لشياطين بني إسرائيل ، من أجل إقامة الحجة الكاملة عليهم ، وعلى كل من يقف إلى جانبهم .

All Rights Reserved © www.KamalHattab.info  |  [email protected]