عودة إلى الصفحة الرئيسية

هل سينهار الاقتصاد الأمريكي؟؟ …. أ.د كمال توفيق حطاب

17 May 2023

كثرت في الآونة الأخيرة الأخبار المثيرة حول احتمالية انهيار الاقتصاد الأمريكي مع بداية الشهر القادم إذا ما عجزت أمريكا عن سداد ديونها .. واشتعل اليوتيوب بمئات وربما آلاف الفيديوهات التي تتحدث عن هذا الأمر ، وعن قرب انهيار الدولار ، نظرا لاتفاق دول بريكس الخمسة على تجنب التعامل به ، واتفاق كثير من الدول على التبادل التجاري فيما بينها بالعملات المحلية .. إلخ من هذه الأفكار التي تتزايد يوما بعد آخر .
ومما لا شك فيه أن كثيرا من هذه الأخبار تتضمن توقعات محتملة ، ولكنها احتمالات ضئيلة ، وتتطلب ظروفا ربما يصعب أو يستحيل وجودها .. فبالنسبة لحجم الدين الأمريكي والمتمثل أساسا بسندات الخزينة الأمريكية ، ووجود قانون يمنع زيادة سقف الدين عن الحد الحالي . فإن هذا الأمر تكرر سابقا مرات عديدة ، وتكلموا عن إغلاق الحكومة الفيدرالية الأمريكية ، وما يسمى بالهاوية المالية .
ولكن الأمر سرعان ما تم حله من خلال الاتفاق في الكونغرس الأمريكي بين الحزبين الأساسيين على السماح برفع سقف الدين ، وعندما يتم السماح تنتهي المشكلة .. إذن المسألة ببساطة هي مسألة سياسية وليست مسألة اقتصادية ، فبمجرد اتفاق الحزبين على السماح بزيادة سقف الدين إلى حد معين أو بشكل مفتوح ، سوف تنتهي المشكلة وتبدأ المطابع بالطباعة وضخ الدولار الأخضر الذي يتسابق ويتهافت عليه معظم البشر ، شعوبا وحكومات .. مهما كان موقفهم السياسي من أمريكا والاقتصاد الأمريكي .
وبالنسبة لقرب انهيار الدولار فالمسألة أيضا أقرب إلى الاتفاق السياسي بين الدول السبعة التي يطلقون عليها السبعة العظام ( G7 ) ، فما دامت هذه الدول متفقة بينها على تقاسم كعكة الاقتصاد العالمي فسوف يستمر الدولار ويستمر النظام النقدي الدولي الذي تم الاتفاق عليه في بريتون وودز عام 1944 ، وعلى تعديلاته المتتالية ، والتي كان أهمها عام 1971 عندما تم تنحية الذهب عن دوره النقدي العالمي ، وإحلال الدولار مكانه ، وذلك من خلال إعلان إمريكا رفض طلبات تحويل الدولار إلى ذهب ، وبالتالي قبلت دول العالم منذ ذلك الوقت أن يكون الدولار مكان الذهب ، ولا يزال الأمر مستمرا حتى وقتنا الحاضر ..
إن المسألة في غاية البساطة ولا تتطلب كل هذه الإثارة الإعلامية سواء في مسألة سقف الدين الأمريكي أو في مسألة انهيار الدولار ، لأن كلا المسألتين مبنية على اتفاقات سياسية ، الأولى اتفاق سياسي داخلي بين أكبر حزبين في أمريكا على الاستمرار في رفع سقف الدين ، وقد وافق الكونغرس الأمريكي على هذا الأمر أكثر من 80 مرة وفقا لبعض الدراسات ، فما الذي يمنعه من الموافقة في الوقت الحاضر ؟ خاصة بعد إفلاس عدد من البنوك الأمريكية والمخاطر الناجمة عن الحرب الأوكرانية .. إن عدم موافقة البعض على رفع سقف الدين الأمريكي ، ربما تصل إلى درجة الخيانة الوطنية ، ولذلك يستحيل أن يقوموا بذلك في هذه الظروف ..
إن الديون تكون خطيرة وقد تقضي على الاقتصاد عندما تعجز الدول عن السداد ، وهذا ينطبق على كافة دول العالم باستثناء أمريكا ، والتي تنفرد وحدها بطباعة الدولار وبالكمية التي تشاء ، وتستفيد هي وحدها من ضخ الدولارات على مستوى العالم ، إن هذه الميزة في طباعة الدولار بلا حدود أو سقوف هي ميزة ، تتمتع بها أمريكا وحدها دون سائر شعوب الأرض ، ولا يمكن أن تتخلى عنها لمصلحة أحد .
ولا يعني ذلك وجود استحالة عقلية في انهيار الاقتصاد الأمريكي أو الدولار ، فالمسألة تندرج تحت الممكنات العقلية ، ولكنها تتطلب ظروفا عالمية ربما يصعب توفرها في الوقت الحالي .. ومن ذلك أن يكون الدولار عملة غير مقبولة في معظم دول العالم ، وأن تستغني الشعوب عن بطاقات الفيزا والماستر كارد وغيرها من البطاقات الائتمانية العالمية ، وأن تستغني البنوك عن نظم التحويلات المالية الدولية التي تبدأ من أمريكا ، وأن تستغني الشعوب عن مستورداتها من السلع الأمريكية من الغذاء إلى الدواء إلى السلاح إلى الطائرات .. إلخ ، وحتى الأفلام الأمريكية والألعاب الإلكترونية وأدوات الترفيه الأخرى لا تزال محل طلب شديد لدى معظم الشعوب في العالم .
إن الاقتصاد الأمريكي وحده يشكل قريبا من ربع الناتج الإجمالي العالمي ، وإن شعوب وحكومات دول العالم تتسابق وتتنافس وتعمل المستحيل من أجل الحصول على الدولار .. وما دام هذا الوضع مستمرا ، فإن مسألة انهيار الدولار أو الاقتصاد الأمريكي هي مسألة بعيدة الحدوث ، نظريا وعمليا .

القانون والشريعة والأخلاق .. أ.د كمال حطاب

07 May 2023

شاركت قبل يومين في المؤتمر الدولي التاسع لكلية القانون الكويتية العالمية ، وقد عرض في المؤتمر عشرات البحوث في جلسات متوازية وعلى مدى يومين كاملين .. وشارك في المؤتمر أساتذة وخبراء من أكثر من أربعين دولة ، وقد غلب على المؤتمر الروح العلمية القوية التي سادت بين الباحثين ، والنقاش الفعال المولد للأفكار الجديدة ، والتفاعل الإيجابي بين الباحثين بشكل عام
تنوعت قضايا المؤتمر والذي كان تحت عنوان ” قضايا قانونية مستجدة: مراجعة علمية للتحديات العملية التي تواجه الدولة المعاصرة ” إلى موضوعات عديدة ، ابتداء من نظم الانتخابات ، فمكافحة الفساد ، فالذكاء الاصطناعي إلى العملات الافتراضية … إلخ ، غير أن من أكثر القضايا التي لفتت نظري موضوع القانون والأخلاق .. حيث يوجد فريق من الباحثين الذين يذهبون إلى أن عرف المجتمع وما يقبله أو يعترض عليه من سلوكيات وأخلاق ، هو مصدر التشريعات والقوانين ، أو أن القوانين ينبغي أن تعدل وفقا لما يتعارف عليه المجتمع من قضايا مستجدة معاصرة ..
ربما يكون ذلك مقبولا في المسائل والقضايا الفرعية التي تتعلق بالوسائل والأدوات التي يمكن استخدامها، فمثلا في موضوع النقود ، تطورت وسائل الدفع من النقود السلعية إلى الذهب والفضة إلى النقود الورقية إلى الائتمانية إلى الرقمية فالافتراضية .. كل ذلك يمكن أن يكون مقبولا ما لم يترافق مع الظلم والفساد .. في القانون والشريعة والأخلاق ..
أما الحديث عن الثوابت والمحكمات وإدراجها مع الفرعيات والمتغيرات فقد يكون ذلك مقبولا في القانون ، ولكنه مرفوض في شريعة الله خالق البشر والعليم بما يصلح لهم وما يضرهم ، فالحديث عن القيم الأصيلة كالصدق والفضيلة والعطاء والتضحية والوفاء والعدل والإحسان والكرم والشجاعة والنخوة والمروءة والشرف .. واعتبارها من الأمور التي يمكن أن تتطور وتتغير وفق تطور المجتمعات المعاصرة .. لا يمكن أن يكون مقبولا في الشريعة والأخلاق والفطرة التي فطر الله الناس عليها .
إن هذه القيم الأصيلة تقرها النفوس الطيبة والعقول الراشدة في كل مجتمع ، مهما بلغت التطورات في التكنولوجيا أو تقنيات الذكاء الاصطناعي أو وسائل التواصل الاجتماعي ، وغيرها من التطورات .
إن التدهور في القيم والسماح بتحول الفضيلة إلى رذيلة وشرعنة القانون لمثل هذا التدهور والانحراف لا يمكن أن يكون مقبولا في مجتمعات ترفع شعار العبودية لله ، وتخضع لقوله تعالى ” إن الحكم إلا لله ” .
لا يمكن أن تكون الرذيلة والفاحشة مقبولة فطريا حتى لو أعطاها القانون صبغة شرعية .. لا يمكن أن يكون تمرد الابن على أبيه والبنت على أمها وأهلها أمرا فطريا مقبولا .. لا يمكن أن تكون المثلية مقبولة مهما صيغت لها من اتفاقيات أو قوانين دولية ، وحتى لو وقعت عليها حكومات دول عربية وإسلامية .. لا يمكن القبول بالإساءة إلى الأديان أو المقدسات أو الذات الإلهية تحت أية ذريعة كانت .. إن مثل هذه الأمور تصادم الفطرة ، كما تصادم الأخلاق ، وتصادم العقل السليم ، وبالتالي فهي تمرد على أخلاق المجتمع ، وتمرد على الفطرة البشرية .
إن التطورات في حياة الناس وأخلاقياتهم وسلوكياتهم ، تتطلب تشريعات قانونية مستمدة من شريعة الله أولا ومن ثم الاجتهادات البشرية النابعة من الفطر السليمة غير المشوهة أو المنحرفة .
لا يمكن السماح للحرية والانفلات ، بالتعدي على الثوابت وانتهاك المحرمات ، تحت أي ظرف من الظروف ..فأكل مال الناس بالباطل ، والتعدي على المحصنات العفيفات ، والمجاهرة في المعصية والرذيلة .. إلخ كلها سلوكيات تصادم الأخلاق ، وبالتالي فهي تستوجب العقوبة في القانون والشريعة ..

تخصص ” الاقتصاد الإسلامي ” وحالة التيه أ.د كمال حطاب

27 April 2023

في ظل التطورات المتسارعة في العلوم التطبيقية والإنسانية في العصر الحاضر ، أفرز اقتصاد السوق تخصصات علمية جديدة لم تكن من قبل ، ونظرا لتزايد الطلب على بعض التخصصات العلمية ، سارع الأكاديميون والمتخصصون إلى وضع مناهج وأوصاف مساقات لبعض التخصصات غالبا ما توصف بأنها متسرعة ، وربما تكون بعيدة عن الواقع ، وربما تفتقد إلى أدنى المعايير أو المواصفات العلمية .
هذا ما حدث مع ظهور علم الاقتصاد الإسلامي في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي ، حيث وجد هذا التخصص إقبالا منقطع النظير ، مما سرع في فتح تخصصات فرعية منبثقة عنه مثل المصارف الإسلامية والتمويل الإسلامي والوقف الإسلامي .. إلخ
بدأت العديد من الجامعات بتدريس هذا التخصص دون تنسيق مع هيئات الاعتماد الخاصة بالمناهج ، ودون التنسيق مع مؤسسات الخدمة المدنية بحيث يتم الحصول على اعتماد الوصف الوظيفي لهذا التخصص من قبل هيئات اعتماد رسمية محلية أو دولية .
وكان غياب المعايير الصارمة والأوصاف المنضبطة الدقيقة للمساقات هو السمة البارزة على مستوى مرحلة البكالوريوس مما أدى إلى ظهور خريجين تائهين لا يعرفون إلى أي قطاعات المجتمع يتجهون ، ولا تتقبل الفعاليات الاقتصادية في المجتمع هؤلاء الخريجين ببساطة .
ولم يقف الأمر عند مرحلة البكالوريوس حيث فتحت برامج الدراسات العليا في هذا التخصص والتخصصات الفرعية المنبثقة عنه مما شجع أعدادا كبيرة من الطلبة الطامحين إلى الحصول على شهادات عليا على الالتحاق بأحد هذه البرامج .. مما أوجد عددا كبيرا من حملة شهادات الدكتوراه في هذا التخصص دون تنسيق مع مؤسسات المجتمع المدنية أو حتى مع وزارات التعليم العالي .
مما أدى إلى معاناة الخريجين في كثير من الدول التي أطلقت هذه التخصصات ، كما أدى ذلك إلى زيادة حالة التيه التي يعاني منها هؤلاء الخريجون ، فلا هم ينتمون إلى علوم الاقتصاد والعلوم الإدارية ، ولا هم مقبولون في الكليات الشرعية . ومن جهة أخرى فإن كثيرا من هؤلاء الخريجين لا يمثلون إضافات علمية أو تراكمات علمية في الحقل الذي درسوه إما لعدم الحاجة إليه أو لأنها دراسات نظرية تاريخية تخلو من أية آليات تنفيذية يمكن أن تستفيد منها المجتمعات المعاصرة .
إن إعادة بناء مساقات الاقتصاد الإسلامي بما ينسجم مع التطورات المعاصرة وتحصيل الاعتمادات الرسمية اللازمة لها، والمسميات الوظيفية الخاصة بها ، بات مطلبا أساسيا ، قبل الاستمرار في قبول الطلبة وتخريج دفعات لا تستطيع مواكبة تطورات الأسواق ولا تجد لها القبول الرسمي أو الأهلي في المجتمع .
ولعله من المفيد تقسيم هذا التخصص إلى تخصصات فرعية عديدة ، تغطي الجوانب الفنية والمهنية الأكثر انتشارا في الأسواق المعاصرة ، والتي تواكب التطورات الاقتصادية والمصرفية والنقدية والوقفية والمخاطر والأسواق ودراسات الجدوى والتطورات الرقمية والافتراضية … إلخ ، وغيرها من التخصصات العملية التي يمكن أن تواكب حاجات الأسواق بشكل أكبر ، ولا بد قبل اعتماد مثل هذه التخصصات الفرعية من عمل دراسات تتضمن استبانات ومقابلات مع الفعاليات الاقتصادية والمؤسسات المالية المتواجدة في السوق للتعرف على حاجاتها المستقبلية ، كما يمكن التنسيق معها من أجل مواءمة نسب النمو فيها مع نسب النمو في الطلبة الخريجين .
إن مثل هذه الدراسات تمثل ضرورة قصوى ، قبل فتح أية تخصصات جديدة في كافة المجالات ، من أجل تأهيل الطلبة وتسليحهم بالعلم والمعرفة المطلوبة من جهة ، ومن جهة أخرى من أجل تأمين وظائف للخريجين بحيث يكون الشخص المناسب في المكان المناسب .

هل يوجد إعجاز اقتصادي في القرآن الكريم؟ … أ.د كمال حطاب

19 April 2023

مما هو متفق عليه بين العلماء أن الإعجاز في القرآن الكريم ليس محصورا في جانب واحد كالجانب البياني، وكذلك فإن جوانب الإعجاز لا يمكن أن تنتهي ، فكلما ازداد الإنسان علما ، واتسع أفقه في أي مجال من المجالات ، رجع إلى القرآن فوجده قد كشف عن هذا المجال قبل أن يهتدي الإنسان إليه .. وينطبق ذلك في المجالات اللغوية والبيانية والبلاغية والعلمية والطبية والهندسية والفيزيائية والكيميائية ، كما ينطبق في العلوم الاجتماعية والاقتصادية وسائر العلوم الإنسانية .
فالقرآن معجز بكافة مضامينه وموضوعاته ، وهو محل تحدٍ للبشر في عصر النبوة ، وفي كافة العصور إلى قيام الساعة .. هذا التحدي قائم في كافة المجالات العلمية الطبيعية والإنسانية .. قال تعالى ” وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ”( البقرة ، 23) .
ومن المجالات التي حظيت بالاهتمام الشديد في هذا العصر ، المجال الاقتصادي .. فهل يوجد في القرآن الكريم إعجاز أو تحد في الجانب الاقتصادي ؟ وكيف نثبت ذلك ؟
إن الجانب الاقتصادي في حياة البشر جانب متغير ، غير مستقر ، يتصف بالتقلبات الاقتصادية كما هي التقلبات الجوية ، ويصف الاقتصاديون هذه الظاهرة بالدورات الاقتصادية ، وقد سعوا بمختلف مدارسهم لوضع نماذج وتصورات لكيفية تحقق التوازن الاقتصادي ، بعد ظهور الأزمات أو التقلبات ، غير أن معظم تلك النماذج كانت تعيش في عالم الأحلام النظرية البعيدة عن الواقع .. فهل يمكن إيجاد نموذج أو منهج حقيقي يمكن أن يحقق الاستقرار والتوازن بحيث تختفي فيه المشكلات والأزمات أو تنخفض حدتها إلى أقل درجة ممكنة ؟ إذا تمكن البشر من إيجاد هذا النموذج فسوف يكون نموذجا معجزا ؟ غير أن دراسة التاريخ الاقتصادي الإنساني تفيد بوضوح بعدم وجود مثل هذا المنهج أو النموذج إلا في عالم الأحلام ، كما ورد في نموذج باريتو للأمثلية ، وفقا لدراسة محمد عمر شابرا .
مما لا شك فيه أن نموذج التوازن أو المنهج المطلوب لتحقيق التوازن ، موجود فقط في القرآن الكريم ، وقد ضمن الله عز وجل لمن أخذ بهذا المنهج الاستقرار والطمأنينة سواء كان على المستوى الفردي أو على مستوى المجتمع ..
فإذا ما حرص الأفراد أو المجتمع على الالتزام بهذا المنهج وتطبيق كافة ما ورد فيه ، فسوف تنخفض حدة المشكلات أو التقلبات إلى أدنى درجة ممكنة ، وقد تم تجريب هذا المنهج في مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم في عصر النبوة ، كما تم تجريبه في العصور الإسلامية الزاهرة التي حقق فيها المسلمون أعلى درجات الرفاهية والتقدم الاقتصادي والعلمي والحضاري في كافة المجالات .
ويبدو هذا المنهج واضحا في آيات القرآن الكريم ، فمن خلال العمل بما ورد في القرآن الكريم من توجيهات وضوابط وتشريعات ، يمكن للمجتمع الوصول إلى أعلى درجات الاستقرار والتوازن والطمأنينة والازدهار .
ولكي لا يكون الكلام عاطفيا فقط ، نستعرض عددا من الموضوعات التي وردت في القرآن الكريم ، ونركز على جوانب الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي التي تضمنتها هذه الموضوعات بشكل مباشر أو غير مباشر، والتي يظهر من خلالها ملامح الإعجاز الاقتصادي في القرآن الكريم .
فلو نظرنا إلى آيات التوحيد والعقيدة التي وردت في سور عديدة ، لعل من أشهرها سورة هود ، فإننا نلاحظ أن هذه الآيات تقود إلى التسليم بوجود إله واحد هو المعبود بحق وهو الحاكم والمشرع وهو الخالق والرازق … ، وبالتالي فلا تشتيت ولا زيغ ولا اضطراب في التصور أو السلوك ، وهذا ما يؤدي إلى استقرار ووضوح في الحياة العملية ، فيتجه كل إلى عمله وهو يستشعر مراقبة الله له ويعلم علم اليقين بأنه سوف يرى نتيجة عمله في الحياة الآخرة ، فيخلص في عمله ويبذل أـقصى ما لديه من أجل زيادة العطاء والإنتاج ونفع المجتمع.. فعلى قدر قوة العقيدة والإيمان يزداد المجتمع قوة وتقدما وازدهارا .
ولو نظرنا إلى الآيات التي تتحدث عن العبادات فلا شك أن لها جوانب وأبعادا اقتصادية تزيد في الطمأنينة والاستقرار ، فكلما ازداد الإنسان طهرا ماديا وروحيا امتلك طاقات إيجابية تزيده عطاء وتضحية وإيثارا ورغبة في زيادة الخير والتقليل من الشر .. زيادة الطيبات والصالحات والتقليل من الخبائث والفواحش .. وهو ما يؤدي إلى الاستقرار والتوازن الاقتصادي .
وعندما تتحدث الآيات عن المعاملات وتحرم الربا والغرر والغش والاحتيال والخداع والاستغلال .. وتأمر بأداء الأمانات وتوثيق المداينات والوفاء بالعقود .. إلخ ، فالأمر كذلك ، فالمعاملات السليمة تسرع عجلة الاقتصاد كما تزيد من شيوع الثقة والاستقرار في الأسواق ، وهكذا في كافة المجالات الحياتية التي نزلت فيها تشريعات قرآنية ، لا يمكن أن نفصل الجوانب الاقتصادية عنها .
إن الإعجاز الاقتصادي يبدو واضحا جليا ، عندما يتم الالتزام بالتعاليم القرآنية بشكل كامل ، وينجم عن هذا الالتزام زيادة في الاستقرار والتقدم الاقتصادي ، فمهما كانت الظروف أو الأزمات الاقتصادية التي تعصف بالأسواق وكافة القطاعات الاقتصادية ، فإن الالتزام بالتعاليم القرآنية وتطبيقها ، سوف يحد من الأزمات على الفور ويعمل على تلاشيها .. وإذا كانت هذه التعاليم القرآنية مطبقة بشكل دائم فإن الأزمات والمشكلات الاقتصادية لن تظهر إلا بقدر ضعف التمسك بهذه التعاليم ..

مؤتمرات المصرفية الإسلامية بين المهنية والنفعية أ.د كمال حطاب

15 March 2023

هل يمكن أن يكون العاملون في الاقتصاد الإسلامي والصيرفة الإسلامية والمؤسسات المالية الإسلامية مجندين لخدمة أصحاب رؤوس المال دون أن يشعروا بذلك ؟ هل يمكن أن تكون الفتاوى وقرارات مجامع الفقه وفتاوى الهيئات الشرعية موجهة لخدمة أصحاب رؤوس الأموال دون قصد من الفقهاء والخبراء والمفتين .. لماذا ينفق أصحاب رؤوس الأموال أموالهم على المؤتمرات والندوات واللقاءات العلمية المحلية والعالمية ؟
إن معظم المؤتمرات والندوات واللقاءات العلمية تقوم على النفعية والمصلحة المتبادلة والدعاية والإعلان والتسويق .. وهي شكل من أشكال الحوافز والمكافآت التي تقدمها بعض المؤسسات المالية الإسلامية للمطبعين معها والموقعين على عقودها وتقاريرها دون أي اعتراض .. فعندما يعلن عن أي مؤتمر في مكان ما في العالم ، تنظمه مؤسسة مالية إسلامية ، فإن معظم المشاركين سيكونون ممن لديهم مقاعد دائمة في هذا المؤتمر .. حيث يكون الاتفاق بين هذه المؤسسة والمؤسسات الأخرى التي تنظم ملتقيات دورية مشابهة على مدار السنة ، من أجل ترشيح شخصين أو ثلاثة أو أكثر لكل مؤسسة ، بحيث تشملهم المكافآت والمنافع التي تقوم هذه المؤسسات بتوزيعها .
فهل تصح مثل هذه السلوكيات الانتهازية النفعية من قبل مؤسسات تدعي أنها إسلامية أو تحرص على المشروعية ؟
وليت المسألة تقف عند المؤتمرات ، فالدورات التدريبية والورش والندوات والشهادات المصرفية .. إلخ في معظمها تدور في فلك المتاجرة بالقضية ، فقد وجدت اتفاقيات بين مؤسسات مالية مصرفية إسلامية على تقاسم شهادات مصرفية وتقاسم مدربين ، ومتدربين وإصدار اعتمادات مهنية ، دون أي مرجعية علمية مهنية عالمية أو إقليمية أو حتى محلية .. كل ذلك من أجل تقاسم المزيد من الأرباح واغتنام الطلب المتزايد في السوق ..
إضافة إلى ما تقدم ازدهرت تجارة المؤتمرات المالية الإسلامية التي تقيمها بعض المؤسسات والشركات والتي تجمع أكبر عدد من الداعمين والممولين الماسيين والذهبيين والفضيين ، وتقوم بتوزيع بعض المكافآت على الأسماء اللامعة الذين وجهت لهم الدعوات والاستكتابات ، كما تقوم بدفع مصاريف الإقامة والتذاكر .. ويبقى لديها من أموال الدعم ورسوم التسجيل ما تحقق به أرباحا طائلة .. وهذا هو الهدف الأساسي من مثل هذه المؤتمرات ، أما المحتوى والقرارات والتوصيات ، فهي أحبار على أوراق أو ذبذبات إلكترونية على أجهزة كمبيوتر أو مواقع يتم تسويقها من أجل الاستمرار في الحشد للمؤتمرات القادمة .
في ظل هذه الأوضاع والظروف ؟ لنا أن نتساءل كيف يمكن الحد من شبهات الفساد في المصرفية الإسلامية وكثير ممن يطلق عليهم خبراء أو علماء الصيرفة الإسلامية يشاركون في هذه السلوكيات بعلمهم أو دون علمهم ؟ كيف يمكن تطهير الصناعة المالية الإسلامية من الربا والغرر والغش والاحتكار ، ودعاة الصيرفة الإسلامية يشغلون أنفسهم في الزخرفة والبهرجة في مؤتمرات الصيرفة الإسلامية .
للأسف الشديد أن معظم العلماء الممثلين للصناعة المالية الإسلامية اليوم يحصرون دورهم في كتابة بحث هنا أو هناك وإصدار رأي أو فتوى وهم بذلك يظنون أن ذممهم قد برئت وأنهم في وضع سليم طالما عبروا عن رأيهم أو أصدروا قرارات هنا أو هناك ..
ومع احترامنا لهؤلاء العلماء وأهمية ما يقومون به إلا أن المنفذين لأدوات الصناعة المالية الإسلامية يطبقون ما يشاؤون مما يضمن لهم ولمؤسساتهم أكبر الأرباح .. ويستندون إلى ما يؤيد تطبيقاتهم من الآراء المبثوثة هنا وهناك .. بل ويحشدون جموع العلماء لمباركة مثل هذه الآراء .
وأنا أقول بانه لا بد أن يتداعى العلماء إلى ميثاق شرف يتعاهدون جميعا على بعض الأسس والثوابت التي لا يجوز الخروج عليها .. فمثلا صدرت قرارات مجمعية بتحريم التورق المنظم .. ومع ذلك يمكن القول بأن كثيرا من المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية لا تزال تتعامل بالتورق والمرابحات الدولية .. وبناء على ذلك ، لا بد من اتخاذ إجراءات رادعة بحق المؤسسات التي تخالف القرارات المجمعية ، وتعمل على تشويه وانحراف وتأخر الصيرفة الإسلامية ، من خلال زيادة الحيل والشبهات والمخالفات الشرعية .
ربما تكون المؤتمرات التي تقيمها الجامعات والمعاهد العلمية ، ومن خلال الأقسام الأكاديمية العلمية فيها هي المؤتمرات الوحيدة التي يمكن أن تكون بريئة من الشبهات ، ولعلها الطريقة الأكثر مهنية وشفافية وعلمية ، حيث يجتمع المتخصصون في أي علم ، فتتلاقح الأفكار العلمية وتتوالد الأفكار الجديدة فيحصل التراكم العلمي الذي يقود إلى التقدم والتنمية .. بعيدا عن تدخلات أصحاب رؤوس الأموال وأصحاب المصالح ،
ولذلك تعتبر الأقسام الأكاديمية في الاقتصاد والمصارف الإسلامية هي الجهات الأكثر مهنية وشفافية وحرصا على استمرار سلامة مسيرة المصرفية الإسلامية ، غير أن دورها لا يكاد يظهر ، في ظل الزخرفة الإعلامية لمؤتمرات المصرفية الإسلامية الممولة من قبل أصحاب رؤوس الأموال .

All Rights Reserved © www.KamalHattab.info  |  [email protected]