عودة إلى الصفحة الرئيسية

هل يمكن إسقاط القروض عن المقترضين الإيجابيين ؟ أ.د كمال حطاب

27 May 2023

من المتفق عليه فنيا واقتصاديا أن البنوك التجارية تخلق كميات ضخمة من النقود .. تتناسب مع مرونة تشريعات البنوك المركزية فيما يتعلق بنسبة الاحتياطي أو الرصيد النقدي ، فكلما زادت هذه النسبة انخفضت قدرة البنوك على خلق نقود جديدة ، وكلما انخفضت هذه النسبة زادت قدرة البنوك على خلق نقود جديدة .. وهذا يعني أن هذه النسبة إذا كانت صفرا فإن قدرة البنوك على خلق النقود ستكون مطلقة وبلا حدود .. وربما هذا ما يفسر حقيقة أن البنوك قد تخلق نقودا من لا شيء .
ومهما بلغ حجم البنك ، وقوة سمعته ، وتصنيفه الائتماني ، فإنه عندما يتعرض لموجات سحب كبيرة جدا ، فإنه سيتعرض للإفلاس ، لأنه ببساطة قد أقرض أموالا طائلة لا يمتلكها .. كما حدث لبنك سيليكون فالي ، وسيغنيشر ، وغيرها من البنوك ، وكما حدث لأكثر من 500 مصرفا عالميا منذ الأزمة العالمية عام 2008 .
إن حقيقة أن البنوك تخلق نقودا من لا شيء ، هي أشبه بحقيقة أن النقد الدولي أو الدولار يُطبع من لا شيء ، وتتمتع أمريكا وحدها بمزايا إصدار الدولار ، ومبادلته بجهود وسلع وخدمات العالم دون مقابل ، وبالرغم من أن هذه الحقيقة معروفة ، إلا أن أحدا من الدول أو الحكومات لا يستطيع التغيير أو الاعتراض .
هل يمكن إيجاد مؤسسة للمقترضين وبضمان الحكومة ، تسجل فيها ديون المقترضين ، وربما تتحول إلى سندات بضمان الحكومة ، بحيث يتم السداد والإغلاق لهذه الديون ، ومن خلال تشريعات قانونية تنظم هذه العملية وتفرق بين المقترض المستثمر والمقترض السيء والمقترض المقامر .. أو بمعنى آخر، بين المقترض الإيجابي والمقترض السلبي ؟ فما دام يسمح للبنوك بإقراض مبالغ تفوق عشرات ومئات المرات حجم رأسمالها ، فلماذا لا يسمح للمقترضين الإيجابيين بإغلاق ديونهم على شكل سندات بضمان الحكومات ، فالمهم هو وجود تشريعات قانونية تحمي هذه الديون … كما هو جار حاليا في كثير من دول العالم ، حيث يوجد حماية لكثير من المؤشرات والخيارات والمستقبليات وأذونات الخزانة الأمريكية وغيرها.. والتي لا تمثل سوى أرقاما أو ديونا تخضع لتداول منظم قانونا .
إن مسألة النقود في نظري هي مسألة قوة الدول وقوة تشريعاتها ، وقوة كبار أصحاب المصالح ، تلك القوة المولدة للطلب أو المضاربة على العملة ، مهما كانت هذه العملة ورقية أو رقمية أو افتراضية أو أي شيء آخر يتم التعارف عليه . وهذه القوة تستمد من قوة رأس المال ، فكبار الرأسماليين هم من يقررون كل شيء ، هم من قرروا قانونية العملات الورقية وهم من يستطيعون إلغاءها ، وهم من قرروا قانونية العملات الائتمانية ويستطيعون إلغاءها ، كما يمكنهم أن يقرروا قانونية العملات الرقمية أو الافتراضية أو قانونية الديون والأرقام التي تمثلها أو أي شيء آخر.
إن المسألة ببساطة تعتمد على مدى وجود تشريعات منظمة لهذه الديون ، بحيث يكون تداولها ، بما يحقق مصلحة الاقتصاد وتقدمه .
إن التشريعات المنظمة لأسواق السندات والصكوك هي في الحقيقة تشريعات لتنظيم الديون سواء كانت مغطاة بأصول أو غير مغطاة بأي شيء .. وطالما كانت التشريعات قوية وتخدم مصالح المجتمع والفئات التي تدير الاقتصاد ، فإن الأوضاع الاقتصادية وأوضاع البنوك ستبقى قوية ومستقرة.
إن تحركات أسواق التداول هي المؤشر الوحيد حول سلامة النقود الورقية أو الائتمانية أو الافتراضية ومدى قوتها وانتشارها ، وتبقى آليات العرض والطلب التي يتحكم فيها كبار أصحاب المصالح هي الآليات الوحيدة المعتمدة ، وتبقى الحاجة ماسة لوجود تشريعات تنظم إسقاط الديون عن المقترضين الإيجابيين ، في حالة كان هذا الإسقاط يؤدي إلى خدمة الاقتصاد وخدمة المجتمع .

هل سينهار الاقتصاد الأمريكي؟؟ …. أ.د كمال توفيق حطاب

17 May 2023

كثرت في الآونة الأخيرة الأخبار المثيرة حول احتمالية انهيار الاقتصاد الأمريكي مع بداية الشهر القادم إذا ما عجزت أمريكا عن سداد ديونها .. واشتعل اليوتيوب بمئات وربما آلاف الفيديوهات التي تتحدث عن هذا الأمر ، وعن قرب انهيار الدولار ، نظرا لاتفاق دول بريكس الخمسة على تجنب التعامل به ، واتفاق كثير من الدول على التبادل التجاري فيما بينها بالعملات المحلية .. إلخ من هذه الأفكار التي تتزايد يوما بعد آخر .
ومما لا شك فيه أن كثيرا من هذه الأخبار تتضمن توقعات محتملة ، ولكنها احتمالات ضئيلة ، وتتطلب ظروفا ربما يصعب أو يستحيل وجودها .. فبالنسبة لحجم الدين الأمريكي والمتمثل أساسا بسندات الخزينة الأمريكية ، ووجود قانون يمنع زيادة سقف الدين عن الحد الحالي . فإن هذا الأمر تكرر سابقا مرات عديدة ، وتكلموا عن إغلاق الحكومة الفيدرالية الأمريكية ، وما يسمى بالهاوية المالية .
ولكن الأمر سرعان ما تم حله من خلال الاتفاق في الكونغرس الأمريكي بين الحزبين الأساسيين على السماح برفع سقف الدين ، وعندما يتم السماح تنتهي المشكلة .. إذن المسألة ببساطة هي مسألة سياسية وليست مسألة اقتصادية ، فبمجرد اتفاق الحزبين على السماح بزيادة سقف الدين إلى حد معين أو بشكل مفتوح ، سوف تنتهي المشكلة وتبدأ المطابع بالطباعة وضخ الدولار الأخضر الذي يتسابق ويتهافت عليه معظم البشر ، شعوبا وحكومات .. مهما كان موقفهم السياسي من أمريكا والاقتصاد الأمريكي .
وبالنسبة لقرب انهيار الدولار فالمسألة أيضا أقرب إلى الاتفاق السياسي بين الدول السبعة التي يطلقون عليها السبعة العظام ( G7 ) ، فما دامت هذه الدول متفقة بينها على تقاسم كعكة الاقتصاد العالمي فسوف يستمر الدولار ويستمر النظام النقدي الدولي الذي تم الاتفاق عليه في بريتون وودز عام 1944 ، وعلى تعديلاته المتتالية ، والتي كان أهمها عام 1971 عندما تم تنحية الذهب عن دوره النقدي العالمي ، وإحلال الدولار مكانه ، وذلك من خلال إعلان إمريكا رفض طلبات تحويل الدولار إلى ذهب ، وبالتالي قبلت دول العالم منذ ذلك الوقت أن يكون الدولار مكان الذهب ، ولا يزال الأمر مستمرا حتى وقتنا الحاضر ..
إن المسألة في غاية البساطة ولا تتطلب كل هذه الإثارة الإعلامية سواء في مسألة سقف الدين الأمريكي أو في مسألة انهيار الدولار ، لأن كلا المسألتين مبنية على اتفاقات سياسية ، الأولى اتفاق سياسي داخلي بين أكبر حزبين في أمريكا على الاستمرار في رفع سقف الدين ، وقد وافق الكونغرس الأمريكي على هذا الأمر أكثر من 80 مرة وفقا لبعض الدراسات ، فما الذي يمنعه من الموافقة في الوقت الحاضر ؟ خاصة بعد إفلاس عدد من البنوك الأمريكية والمخاطر الناجمة عن الحرب الأوكرانية .. إن عدم موافقة البعض على رفع سقف الدين الأمريكي ، ربما تصل إلى درجة الخيانة الوطنية ، ولذلك يستحيل أن يقوموا بذلك في هذه الظروف ..
إن الديون تكون خطيرة وقد تقضي على الاقتصاد عندما تعجز الدول عن السداد ، وهذا ينطبق على كافة دول العالم باستثناء أمريكا ، والتي تنفرد وحدها بطباعة الدولار وبالكمية التي تشاء ، وتستفيد هي وحدها من ضخ الدولارات على مستوى العالم ، إن هذه الميزة في طباعة الدولار بلا حدود أو سقوف هي ميزة ، تتمتع بها أمريكا وحدها دون سائر شعوب الأرض ، ولا يمكن أن تتخلى عنها لمصلحة أحد .
ولا يعني ذلك وجود استحالة عقلية في انهيار الاقتصاد الأمريكي أو الدولار ، فالمسألة تندرج تحت الممكنات العقلية ، ولكنها تتطلب ظروفا عالمية ربما يصعب توفرها في الوقت الحالي .. ومن ذلك أن يكون الدولار عملة غير مقبولة في معظم دول العالم ، وأن تستغني الشعوب عن بطاقات الفيزا والماستر كارد وغيرها من البطاقات الائتمانية العالمية ، وأن تستغني البنوك عن نظم التحويلات المالية الدولية التي تبدأ من أمريكا ، وأن تستغني الشعوب عن مستورداتها من السلع الأمريكية من الغذاء إلى الدواء إلى السلاح إلى الطائرات .. إلخ ، وحتى الأفلام الأمريكية والألعاب الإلكترونية وأدوات الترفيه الأخرى لا تزال محل طلب شديد لدى معظم الشعوب في العالم .
إن الاقتصاد الأمريكي وحده يشكل قريبا من ربع الناتج الإجمالي العالمي ، وإن شعوب وحكومات دول العالم تتسابق وتتنافس وتعمل المستحيل من أجل الحصول على الدولار .. وما دام هذا الوضع مستمرا ، فإن مسألة انهيار الدولار أو الاقتصاد الأمريكي هي مسألة بعيدة الحدوث ، نظريا وعمليا .

القانون والشريعة والأخلاق .. أ.د كمال حطاب

07 May 2023

شاركت قبل يومين في المؤتمر الدولي التاسع لكلية القانون الكويتية العالمية ، وقد عرض في المؤتمر عشرات البحوث في جلسات متوازية وعلى مدى يومين كاملين .. وشارك في المؤتمر أساتذة وخبراء من أكثر من أربعين دولة ، وقد غلب على المؤتمر الروح العلمية القوية التي سادت بين الباحثين ، والنقاش الفعال المولد للأفكار الجديدة ، والتفاعل الإيجابي بين الباحثين بشكل عام
تنوعت قضايا المؤتمر والذي كان تحت عنوان ” قضايا قانونية مستجدة: مراجعة علمية للتحديات العملية التي تواجه الدولة المعاصرة ” إلى موضوعات عديدة ، ابتداء من نظم الانتخابات ، فمكافحة الفساد ، فالذكاء الاصطناعي إلى العملات الافتراضية … إلخ ، غير أن من أكثر القضايا التي لفتت نظري موضوع القانون والأخلاق .. حيث يوجد فريق من الباحثين الذين يذهبون إلى أن عرف المجتمع وما يقبله أو يعترض عليه من سلوكيات وأخلاق ، هو مصدر التشريعات والقوانين ، أو أن القوانين ينبغي أن تعدل وفقا لما يتعارف عليه المجتمع من قضايا مستجدة معاصرة ..
ربما يكون ذلك مقبولا في المسائل والقضايا الفرعية التي تتعلق بالوسائل والأدوات التي يمكن استخدامها، فمثلا في موضوع النقود ، تطورت وسائل الدفع من النقود السلعية إلى الذهب والفضة إلى النقود الورقية إلى الائتمانية إلى الرقمية فالافتراضية .. كل ذلك يمكن أن يكون مقبولا ما لم يترافق مع الظلم والفساد .. في القانون والشريعة والأخلاق ..
أما الحديث عن الثوابت والمحكمات وإدراجها مع الفرعيات والمتغيرات فقد يكون ذلك مقبولا في القانون ، ولكنه مرفوض في شريعة الله خالق البشر والعليم بما يصلح لهم وما يضرهم ، فالحديث عن القيم الأصيلة كالصدق والفضيلة والعطاء والتضحية والوفاء والعدل والإحسان والكرم والشجاعة والنخوة والمروءة والشرف .. واعتبارها من الأمور التي يمكن أن تتطور وتتغير وفق تطور المجتمعات المعاصرة .. لا يمكن أن يكون مقبولا في الشريعة والأخلاق والفطرة التي فطر الله الناس عليها .
إن هذه القيم الأصيلة تقرها النفوس الطيبة والعقول الراشدة في كل مجتمع ، مهما بلغت التطورات في التكنولوجيا أو تقنيات الذكاء الاصطناعي أو وسائل التواصل الاجتماعي ، وغيرها من التطورات .
إن التدهور في القيم والسماح بتحول الفضيلة إلى رذيلة وشرعنة القانون لمثل هذا التدهور والانحراف لا يمكن أن يكون مقبولا في مجتمعات ترفع شعار العبودية لله ، وتخضع لقوله تعالى ” إن الحكم إلا لله ” .
لا يمكن أن تكون الرذيلة والفاحشة مقبولة فطريا حتى لو أعطاها القانون صبغة شرعية .. لا يمكن أن يكون تمرد الابن على أبيه والبنت على أمها وأهلها أمرا فطريا مقبولا .. لا يمكن أن تكون المثلية مقبولة مهما صيغت لها من اتفاقيات أو قوانين دولية ، وحتى لو وقعت عليها حكومات دول عربية وإسلامية .. لا يمكن القبول بالإساءة إلى الأديان أو المقدسات أو الذات الإلهية تحت أية ذريعة كانت .. إن مثل هذه الأمور تصادم الفطرة ، كما تصادم الأخلاق ، وتصادم العقل السليم ، وبالتالي فهي تمرد على أخلاق المجتمع ، وتمرد على الفطرة البشرية .
إن التطورات في حياة الناس وأخلاقياتهم وسلوكياتهم ، تتطلب تشريعات قانونية مستمدة من شريعة الله أولا ومن ثم الاجتهادات البشرية النابعة من الفطر السليمة غير المشوهة أو المنحرفة .
لا يمكن السماح للحرية والانفلات ، بالتعدي على الثوابت وانتهاك المحرمات ، تحت أي ظرف من الظروف ..فأكل مال الناس بالباطل ، والتعدي على المحصنات العفيفات ، والمجاهرة في المعصية والرذيلة .. إلخ كلها سلوكيات تصادم الأخلاق ، وبالتالي فهي تستوجب العقوبة في القانون والشريعة ..

تخصص ” الاقتصاد الإسلامي ” وحالة التيه أ.د كمال حطاب

27 April 2023

في ظل التطورات المتسارعة في العلوم التطبيقية والإنسانية في العصر الحاضر ، أفرز اقتصاد السوق تخصصات علمية جديدة لم تكن من قبل ، ونظرا لتزايد الطلب على بعض التخصصات العلمية ، سارع الأكاديميون والمتخصصون إلى وضع مناهج وأوصاف مساقات لبعض التخصصات غالبا ما توصف بأنها متسرعة ، وربما تكون بعيدة عن الواقع ، وربما تفتقد إلى أدنى المعايير أو المواصفات العلمية .
هذا ما حدث مع ظهور علم الاقتصاد الإسلامي في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي ، حيث وجد هذا التخصص إقبالا منقطع النظير ، مما سرع في فتح تخصصات فرعية منبثقة عنه مثل المصارف الإسلامية والتمويل الإسلامي والوقف الإسلامي .. إلخ
بدأت العديد من الجامعات بتدريس هذا التخصص دون تنسيق مع هيئات الاعتماد الخاصة بالمناهج ، ودون التنسيق مع مؤسسات الخدمة المدنية بحيث يتم الحصول على اعتماد الوصف الوظيفي لهذا التخصص من قبل هيئات اعتماد رسمية محلية أو دولية .
وكان غياب المعايير الصارمة والأوصاف المنضبطة الدقيقة للمساقات هو السمة البارزة على مستوى مرحلة البكالوريوس مما أدى إلى ظهور خريجين تائهين لا يعرفون إلى أي قطاعات المجتمع يتجهون ، ولا تتقبل الفعاليات الاقتصادية في المجتمع هؤلاء الخريجين ببساطة .
ولم يقف الأمر عند مرحلة البكالوريوس حيث فتحت برامج الدراسات العليا في هذا التخصص والتخصصات الفرعية المنبثقة عنه مما شجع أعدادا كبيرة من الطلبة الطامحين إلى الحصول على شهادات عليا على الالتحاق بأحد هذه البرامج .. مما أوجد عددا كبيرا من حملة شهادات الدكتوراه في هذا التخصص دون تنسيق مع مؤسسات المجتمع المدنية أو حتى مع وزارات التعليم العالي .
مما أدى إلى معاناة الخريجين في كثير من الدول التي أطلقت هذه التخصصات ، كما أدى ذلك إلى زيادة حالة التيه التي يعاني منها هؤلاء الخريجون ، فلا هم ينتمون إلى علوم الاقتصاد والعلوم الإدارية ، ولا هم مقبولون في الكليات الشرعية . ومن جهة أخرى فإن كثيرا من هؤلاء الخريجين لا يمثلون إضافات علمية أو تراكمات علمية في الحقل الذي درسوه إما لعدم الحاجة إليه أو لأنها دراسات نظرية تاريخية تخلو من أية آليات تنفيذية يمكن أن تستفيد منها المجتمعات المعاصرة .
إن إعادة بناء مساقات الاقتصاد الإسلامي بما ينسجم مع التطورات المعاصرة وتحصيل الاعتمادات الرسمية اللازمة لها، والمسميات الوظيفية الخاصة بها ، بات مطلبا أساسيا ، قبل الاستمرار في قبول الطلبة وتخريج دفعات لا تستطيع مواكبة تطورات الأسواق ولا تجد لها القبول الرسمي أو الأهلي في المجتمع .
ولعله من المفيد تقسيم هذا التخصص إلى تخصصات فرعية عديدة ، تغطي الجوانب الفنية والمهنية الأكثر انتشارا في الأسواق المعاصرة ، والتي تواكب التطورات الاقتصادية والمصرفية والنقدية والوقفية والمخاطر والأسواق ودراسات الجدوى والتطورات الرقمية والافتراضية … إلخ ، وغيرها من التخصصات العملية التي يمكن أن تواكب حاجات الأسواق بشكل أكبر ، ولا بد قبل اعتماد مثل هذه التخصصات الفرعية من عمل دراسات تتضمن استبانات ومقابلات مع الفعاليات الاقتصادية والمؤسسات المالية المتواجدة في السوق للتعرف على حاجاتها المستقبلية ، كما يمكن التنسيق معها من أجل مواءمة نسب النمو فيها مع نسب النمو في الطلبة الخريجين .
إن مثل هذه الدراسات تمثل ضرورة قصوى ، قبل فتح أية تخصصات جديدة في كافة المجالات ، من أجل تأهيل الطلبة وتسليحهم بالعلم والمعرفة المطلوبة من جهة ، ومن جهة أخرى من أجل تأمين وظائف للخريجين بحيث يكون الشخص المناسب في المكان المناسب .

هل يوجد إعجاز اقتصادي في القرآن الكريم؟ … أ.د كمال حطاب

19 April 2023

مما هو متفق عليه بين العلماء أن الإعجاز في القرآن الكريم ليس محصورا في جانب واحد كالجانب البياني، وكذلك فإن جوانب الإعجاز لا يمكن أن تنتهي ، فكلما ازداد الإنسان علما ، واتسع أفقه في أي مجال من المجالات ، رجع إلى القرآن فوجده قد كشف عن هذا المجال قبل أن يهتدي الإنسان إليه .. وينطبق ذلك في المجالات اللغوية والبيانية والبلاغية والعلمية والطبية والهندسية والفيزيائية والكيميائية ، كما ينطبق في العلوم الاجتماعية والاقتصادية وسائر العلوم الإنسانية .
فالقرآن معجز بكافة مضامينه وموضوعاته ، وهو محل تحدٍ للبشر في عصر النبوة ، وفي كافة العصور إلى قيام الساعة .. هذا التحدي قائم في كافة المجالات العلمية الطبيعية والإنسانية .. قال تعالى ” وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ”( البقرة ، 23) .
ومن المجالات التي حظيت بالاهتمام الشديد في هذا العصر ، المجال الاقتصادي .. فهل يوجد في القرآن الكريم إعجاز أو تحد في الجانب الاقتصادي ؟ وكيف نثبت ذلك ؟
إن الجانب الاقتصادي في حياة البشر جانب متغير ، غير مستقر ، يتصف بالتقلبات الاقتصادية كما هي التقلبات الجوية ، ويصف الاقتصاديون هذه الظاهرة بالدورات الاقتصادية ، وقد سعوا بمختلف مدارسهم لوضع نماذج وتصورات لكيفية تحقق التوازن الاقتصادي ، بعد ظهور الأزمات أو التقلبات ، غير أن معظم تلك النماذج كانت تعيش في عالم الأحلام النظرية البعيدة عن الواقع .. فهل يمكن إيجاد نموذج أو منهج حقيقي يمكن أن يحقق الاستقرار والتوازن بحيث تختفي فيه المشكلات والأزمات أو تنخفض حدتها إلى أقل درجة ممكنة ؟ إذا تمكن البشر من إيجاد هذا النموذج فسوف يكون نموذجا معجزا ؟ غير أن دراسة التاريخ الاقتصادي الإنساني تفيد بوضوح بعدم وجود مثل هذا المنهج أو النموذج إلا في عالم الأحلام ، كما ورد في نموذج باريتو للأمثلية ، وفقا لدراسة محمد عمر شابرا .
مما لا شك فيه أن نموذج التوازن أو المنهج المطلوب لتحقيق التوازن ، موجود فقط في القرآن الكريم ، وقد ضمن الله عز وجل لمن أخذ بهذا المنهج الاستقرار والطمأنينة سواء كان على المستوى الفردي أو على مستوى المجتمع ..
فإذا ما حرص الأفراد أو المجتمع على الالتزام بهذا المنهج وتطبيق كافة ما ورد فيه ، فسوف تنخفض حدة المشكلات أو التقلبات إلى أدنى درجة ممكنة ، وقد تم تجريب هذا المنهج في مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم في عصر النبوة ، كما تم تجريبه في العصور الإسلامية الزاهرة التي حقق فيها المسلمون أعلى درجات الرفاهية والتقدم الاقتصادي والعلمي والحضاري في كافة المجالات .
ويبدو هذا المنهج واضحا في آيات القرآن الكريم ، فمن خلال العمل بما ورد في القرآن الكريم من توجيهات وضوابط وتشريعات ، يمكن للمجتمع الوصول إلى أعلى درجات الاستقرار والتوازن والطمأنينة والازدهار .
ولكي لا يكون الكلام عاطفيا فقط ، نستعرض عددا من الموضوعات التي وردت في القرآن الكريم ، ونركز على جوانب الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي التي تضمنتها هذه الموضوعات بشكل مباشر أو غير مباشر، والتي يظهر من خلالها ملامح الإعجاز الاقتصادي في القرآن الكريم .
فلو نظرنا إلى آيات التوحيد والعقيدة التي وردت في سور عديدة ، لعل من أشهرها سورة هود ، فإننا نلاحظ أن هذه الآيات تقود إلى التسليم بوجود إله واحد هو المعبود بحق وهو الحاكم والمشرع وهو الخالق والرازق … ، وبالتالي فلا تشتيت ولا زيغ ولا اضطراب في التصور أو السلوك ، وهذا ما يؤدي إلى استقرار ووضوح في الحياة العملية ، فيتجه كل إلى عمله وهو يستشعر مراقبة الله له ويعلم علم اليقين بأنه سوف يرى نتيجة عمله في الحياة الآخرة ، فيخلص في عمله ويبذل أـقصى ما لديه من أجل زيادة العطاء والإنتاج ونفع المجتمع.. فعلى قدر قوة العقيدة والإيمان يزداد المجتمع قوة وتقدما وازدهارا .
ولو نظرنا إلى الآيات التي تتحدث عن العبادات فلا شك أن لها جوانب وأبعادا اقتصادية تزيد في الطمأنينة والاستقرار ، فكلما ازداد الإنسان طهرا ماديا وروحيا امتلك طاقات إيجابية تزيده عطاء وتضحية وإيثارا ورغبة في زيادة الخير والتقليل من الشر .. زيادة الطيبات والصالحات والتقليل من الخبائث والفواحش .. وهو ما يؤدي إلى الاستقرار والتوازن الاقتصادي .
وعندما تتحدث الآيات عن المعاملات وتحرم الربا والغرر والغش والاحتيال والخداع والاستغلال .. وتأمر بأداء الأمانات وتوثيق المداينات والوفاء بالعقود .. إلخ ، فالأمر كذلك ، فالمعاملات السليمة تسرع عجلة الاقتصاد كما تزيد من شيوع الثقة والاستقرار في الأسواق ، وهكذا في كافة المجالات الحياتية التي نزلت فيها تشريعات قرآنية ، لا يمكن أن نفصل الجوانب الاقتصادية عنها .
إن الإعجاز الاقتصادي يبدو واضحا جليا ، عندما يتم الالتزام بالتعاليم القرآنية بشكل كامل ، وينجم عن هذا الالتزام زيادة في الاستقرار والتقدم الاقتصادي ، فمهما كانت الظروف أو الأزمات الاقتصادية التي تعصف بالأسواق وكافة القطاعات الاقتصادية ، فإن الالتزام بالتعاليم القرآنية وتطبيقها ، سوف يحد من الأزمات على الفور ويعمل على تلاشيها .. وإذا كانت هذه التعاليم القرآنية مطبقة بشكل دائم فإن الأزمات والمشكلات الاقتصادية لن تظهر إلا بقدر ضعف التمسك بهذه التعاليم ..

All Rights Reserved © www.KamalHattab.info  |  [email protected]